لم يستطع عقل المرشد الإيراني علي خامنئي، ولن يستطيع، تقبل حقيقة وجود ثورة شبابية شيعية في جنوبي العراق شعارها طرد إيران وذيولها وتقويض نفوذها الديني والتمرد على نظرية الولي الفقيه التي تكرسه كظل الله في الارض، فما يقوله كأنه قول "لله"، لا مجال لنقاشه أو نقده أو تجاهله. ولهذا وبعدما استشعر الخطر الحقيقي من هذه الثورة ومدى قدرتها على كنس النفوذ الايراني في جنوبي العراق "الشيعي" سارع إلى اغتيالها عبر اتهامها بأنها تُمول بأموال عربية وأموال غربية، وتحديداً امريكا وإسرائيل.
ظن خامنئي أنه باتهاماته هذه سيجعل الثوار الشباب ينسحبون من شوارع بغداد وبقية المدن العراقية ويجعلهم ينظرون إلى أنفسهم "كعملاء" لإسرائيل وأمريكا، وهو ما يفقدهم الثقة بأنفسهم وبثورتهم وأهدافها، وبالتالي إفشال الثورة وإخمادها، ولم يكن يتوقع أن مثل هذه الاتهامات التي طعنت بوطنية عشرات الآلاف من الشباب الثائر الذي يواجه الرصاص الإيراني بصدور عارية سوف تزيدهم تصميماً على المضي قدماً في ثورتهم وتعيد لهم الشعور بعراقيتهم وعروبتهم بعد سنوات طويلة من سلخهم عنها عبر عملية تزييف مبرمجة للوعي من خلال خطاب ديني مزور للتاريخ أو يستحضر التاريخ الإسلامي بصورة مشوهة عبر روايات وقصص كاذبة وافتراءات الهدف منها إعلاء شأن الفرس في التاريخ الإسلامي على حساب العرب والعروبة وصولاً إلى الافتراء على القرآن ذاته "كلام الله"، وعلى الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله.
مازال "العقل الأوتوقراطي" في العالم الإسلامي بشقيه السني والشيعي غير قادر على استيعاب مجمل التغيرات التي طرأت على حياة الناس في القرن الحادي والعشرين، فهو بالإضافة إلى أنه يعيش حالة إنكار دائمة لكل ما هو غير متسق مع ثقافته وواقعه ومناقض له، ما زال يراهن على إنتاج الوهم وخداع الذات، والمثال الأكبر على هذا العقل هو العقل الأوتوقراطي الشيعي والمتمثل في ولاية الفقيه، وأكبر مثال على عدمية هذا العقل هو الخطاب الاتهامي الذي وجهه علي خامنئي للثوار العراقيين واتهامهم بالعمالة لأمريكا وإسرائيل فقط لأنهم تمردوا عليه وعلى ممثليه ورجال دينه، وفوق هذا وذاك على إيران، فهذا الرجل ومنظومته الدينية والأمنية والسياسية تعيش محنة يمكن تسميتها "صدمة الحقيقة أو الحقيقة الصاعقة" التي لا يمكن له تقبلها. ففي اللحظة التي يتقبلها يكون قد حكم على ذاته وسلطته بالفناء والاندثار تماماً مثلما هو حال وكيله في لبنان حسن نصر الله الذي اتهم الثوار بالتمويل من بعض السفارات من أجل إنهاء الثورة في الشارع اللبناني وتشويه صورتها.
المرشد تجاهل وبشكل عنيف ومرضي جملة من الحقائق والعوامل الموضوعية التي فجرت الثورة ضده وضد عملاء إيران من السياسيين العراقيين ومنها:
أولاً: أن نسبة الفقر في المحافظات الجنوبية التى يشكل الشيعة فيها قرابة 95 % من السكان تصل إلى أكثر من 20 % وفي محافظة المثنى (السماوة) تصل النسبة إلى 50 % حسب إحصائيات وزارة التخطيط العراقية لعام 2018 والتي من المتوقع أنها زادت عن هذه النسبة في عام 2019 .
ثانياً: البطالة وتصل في عموم العراق إلى 40 % من عدد السكان البالغ 37 مليون نسمة حسب تقديرات صندوق النقد الدولي، و90 % من هذه البطالة تتركز في جنوبي العراق.
ثالثاً: الغياب شبه الكامل للخدمات العامة في جنوب العراق، فهي تكاد تكون معدومة، لا ماء ولا كهرباء ولا طبابة ولا شبكة مواصلات رغم أن 90 % من إنتاج النفط العراقي والبالغ خمسة ملايين برميل يوميا يأتي من جنوب العراق.
رابعاً: الاضطهاد القومي الذي يمارسه الإيرانيون بحق الشيعة العرب في الجنوب، وهو عامل يواجهه عملاء إيران العراقيون الذي يحكمون العراق منذ 2003 بالإنكار والتجاهل محكومين بعقدتين: الأولى وهي الشعور بالتفوق العرقي على الشيعي العربي والتي تولد العقدة الثانية ألا وهي "الإنكار" وأقصد هنا إنكار الواقع وتجاهله وعدم تلمس حقيقة الظلم والجور والاضطهاد الذي يعيشه العراقيون في ظل الحكم الإيراني.
سارع العقل الأوتوقراطي للولي الفقيه إلى اتهام الثوار بأنهم صدّاميون وبعثيون وهي تهمة لا تقل تفاهة عن تهمة العمالة لأمريكا واسرائيل أنها محنة ما تبقى من العقل.