من وحي الاستقلال محطات في الذاكرة
د.محمد جميعان
26-05-2007 03:00 AM
في هذه المناسبة العظيمة مناسبة الاستقلال التي تحرك الوجدان مشاعرا ،وتثير الأشجان مواقفا ، وتفعل العقل تفكرا وتدبرا ، بين تلك الأيام العجاف والصعبة في شح الموارد ، وضيق ذات اليد، عندما أعلن فيها الاستقلال ، والتي وصفها قائد الاستقلال نفسه ، الملك المؤسس عبدا لله ابن الحسين بقوله ((وبالرغم عما تعاقب على البلاد من سنوات الجدب والجفاف ، والتي مرت بها الأقطار المجاورة أيضا ، إلا إننا استطعنا ان نجتاز تلك العقبات وان نحتفظ بثرواتنا وكياننا الاقتصادي دون انتقاص او استعانة برأس مال أجنبي ))بين تلك الأيام الموصوفة ، وبين هذه الأيام المزدهرة ، التي نصون بها هذا الاستقلال عملا ،وجهدا ، وبناءاً، ومواقف ، حجم كبير من المنجزات وضعت الأردن على مصاف الدول الأكثر نمواً على سلم الدول النامية ، وأصبحنا مع هذا الاستقلال نرنو الى الولوج الى التقدم الأكبر ، الذي يضعنا على عتبات الدول المتقدمة.
يصعب الحديث في مناسبة الاستقلال ، لعظم المناسبة وتشعب الموضوع واتساعه وتداخلاته ، وحجم ما يمكن الحديث فيه ، يتجاوز الأيام والأشهر والسنوات ، ولكنني اقصر الحديث من وحي الاستقلال محطات في الذاكرة تركت أثرا كبيراً في نفسي ،وكانت دروس عملية في معنى الاستقلال ، محطة في طفولتي سطرها الرعيل الأول من حماة الاستقلال ، ومحطة في شبابي أدركت فيها عظم الجهود التي تبذل لصون الاستقلال والحفاظ عليه ، ومحطة على عتبات الكهولة تأكد لي فيها ان الاستقلال بحاجة الى جهد كل واحد فينا للحفاظ عليه .
المحطة الأولى ، حيث مسقط رأسي في بلدة ضانا في محافظة الطفيلة ، حيث والدي رحمه الله يصطحبني في جولة على أراضي والده في المنطقة ،يحدثني وأنا طفل لم يبلغ سن الدراسة بعد ، يقول لي يا ولدي من هذه الأرض التي تقف عليها ألان ، مرت جيوش "الثورة العربية الكبرى" لتخوض معارك الشرف في حد الدقيق ووادي زيد مع الحاميات التركية هناك ، لتسطر أولى كلمات العز وأولى خطوات الاستقلال عن البريطانيين ، التي تحققت فيما بعد في 25/5/1946 ، وقد امتشقنا السلاح وتكتفنا به ، وركبنا الخيول تصهل بنا ، تملا السهل صهيلا ، تصهل بالرجال الذين ما عرفوا إلا الوفاء طريقا ، والصدق منهجا ، يؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة .. وكنا باكورة هذه الثورة دون تردد وتأخير لأنها ثورة العرب من ضيم الأجنبي...
ويستطرد رحمة الله ومن خيرات هذه الأرض يا ولدي كانت تأكل الحاميات التركية ظلما وجورا يفرضون علينا الخاوات والاتوات دون ان يقدموا لنا مقابلها أي شيء سوى الاستبداد والشعور بالضيم .. نعم يا محمد هذا هو الاستقلال بين من جاء ليبني ويعز الوطن وأهله ليحقق الاستقلال بكل معانيه ، وبين أولئك الذين فرضوا علينا الأتوات والضرائب .. كان حديث والدي أول درس عملي فقهته في معنى الاستقلال..
أما المحطة الثانية التي أمضيت فيها شبابي ، وهي من وحي المحطة الأولى، عندما التحقت ضابطا في المؤسسة العسكرية، حيث عرفت التضحيات ، وحجم الجهود الكبيرة ، التي تبذل للحفاظ على الاستقلال وصونه ، من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ، وعرفت بالمقابل سوء أولئك الذين يتعاملون مع الخارج والأجنبي ، كيف أنهم لا يدركون معنى الاستقلال ، وهم ينزلقون في تهلكة الإساءة الى الأردن وأهله.
والمحطة الثالثة ، حتى لا أطيل عليكم ، عندما اخترت الحياة الأكاديمية و البحثية والعلمية ،وأصبحت محاضراً وباحثا في الدراسات السياسية والجغرافية والسكانية ؛تأكد لي ان الاستقلال بحاجة الى صون و جهد للمحافظة عليه ، وان ذلك لن يتم إلا بالحكمة والعلم والعمل ، والبحث والدراسة والسهر والمتابعة ، وان ذلك لن يتأتى إلا إذا تظافرت الجهود من قبل كل واحد فينا ، ليكون لبنة صالحة لا يؤتى السوء من قبله ..
drmjumian@yahoo.com