ما أزال أذكر كيف كانت الطفيلة تحتفل بقدوم تشرين الثاني فهو شهر قطاف الزيتون حيث تعد الأسر السلالم الخشبية “الصواري” وتحضر أكياس الخيش وتهيئ سطوح البيوت لنشر الزيتون وتنشيفه قبل أن تدفع به إلى معاصر الزيتون الحجرية والأوتوماتيكية. كان القطاف يشبه العيد فهو المناسبة التي يجتمع فيها الآباء والأبناء والجدات والأحفاد وتعد خلاله الوجبات التي لا يشبهها إلا أطباق العيد. اليوم لا أظن أن أيا من هذه المشاعر موجودة في الطفيلة ولا غيرها من مدن وبلدات الأردن إلا على صفحات التواصل الاجتماعي فقد استبيح الفضاء الخاص بهذه المواسم وتبدلت الظروف والعقول والقيم.
في الأردن الذي تقلصت فيه المساحات الزراعية إلى أقل من 11 % بسبب العمران والتصحر ونقص المياه يوجد آلاف المزارع أو الإستراحات التي أسسها البعض في العقود الأربعة الماضية كمتنفسات تتوجه لها الأسر في العطل والإجازات وكوسيلة لربط أبناء المدن بالريف ولإكساب مذاق الحياة الريفية للأبناء والآجيال التي لم تختبر هذا النمط من العيش. غالبية المزارع الجديدة تطلبت الاستعانة بحارس أو عامل زراعي يتولى إدارتها وحراستها والعناية بالأشجار الأمر الذي عزز الطلب على العمال الزراعيين.
الكثير من المزارع المنتشرة على مساحة البلاد تشتمل على بيوت ريفية صغيرة أو متوسطة الحجم وآبار لجمع مياه المطر وكميات من أشجار الزيتون والفواكه المختلفة. أصحاب المزارع أو الحواكير الجديدة لا يكترثون كثيرا للإنتاج ولا يهتمون بالزراعة فيتركون أمر إدارتها والعناية بها للحراس أو المزارعين الأمر الذي حول الكثير منها إلى استراحات سياحية. الأسر الأردنية تفقد تدريجيا بهجة موسم القطاف الذي كانت تنتظره بفارغ الصبر لتحول أيامه إلى مهرجانات يشارك فيها الأهالي من مختلف الأعمار حيث يتعاون الأقارب والأصدقاء على جمع الثمار وهم يرددون الأهازيج والأغاني ويعدون أطباق الطعام التي ارتبطت بهذه المواسم.
خلال العقود القليلة الماضية تقلص عدد الأردنيين الذين يعرفون أساليب زراعة الزيتون وطرق العناية به وغيره من الأشجار المثمرة. في كل عام يتجدد البحث من قبل أصحاب المزارع الصغيرة والحواكير عمن يجيد فن التطعيم والتقليم للأشجار التي كانت ولا تزال أحد أهم النباتات المستوطنة لبيئتنا وأكثرها قدسية ورمزية ومنفعة لنا.
من الصعب أن تجد أشخاصا يهتمون بالنشاط الزراعي أو يقبلون على القيام بأي من المهام المرتبطة فالتطعيم والتقليم للأشجار والإشراف على حراثة المزارع أصبحت خارج اهتمامات العامل الأردني، لا أعرف الأسباب التي دفعت بالأردنيين إلى مقاطعة الأعمال الزراعية والعزوف عنها، فقد أضحت جميعها في عهدة إخواننا المصريين الذين جاء معظمهم إلى الأردن دون سابق معرفة بالزراعة ناهيك عن الزيتون الذي اختصت به بلادنا وظل رمزا لثقافتها وإنتاجها وفلكلورها.
العمل في قطاف الزيتون يوفر ما يتراوح بين 40 إلى 100 دينار يوميا للعامل فالمزارعون يوكلون قطاف أشجارهم لعمال مقابل 50 % من المحصول. غالبية من يقوم بهذه الأعمال عمال مصريون أو عرب، في حين يتأفف الأردني إذا ما عرضت عليه القيام بمثل هذه الأعمال.
بالرغم من وعود حكومة الرزاز بأنها ستدخل إلى البرامج المدرسية أنشطة قطاف الزيتون وخدمة المجتمع إلا أن ذلك لم يحدث. الصور التقليدية للعائلات الأردنية في مواسم قطاف الزيتون تلاشت في الكثير من القرى والبلدات الأردنية لتحل محلها صور العمال وهم يضربون الأشجار بالعصي ويكسرون الفروع التي يستعصي عليهم تسلقها. في الأزمان الغابرة كان الآباء والأجداد يصممون سلالم طويلة تنحني من طولها لتلتف حول الشعب الطائرة من الشجر الرومي المعمَّر.
الغد