من ناحيتي، أعترف بتقصيري حيال جيراني من حيث تبادل الواجبات الإجتماعية التي أصبحت ثقيلة ولا وقت لها بحكم ضيق الوقت وتراكم المسؤولية على الفرد، وإن كانت العلاقات بيننا ودية ومقتضبة، لكنه تقصير متبادل بين طرفي المعادلة عملا ً بالمثل القائل صباح الخير ياجاري انت بحالك وأنا بحالي. فهل لازال ثمن الدار على قدر الجار؟.
إذا كانت المسألة بين الجيران تقتصر على التراخي الاجتماعي بدل التآخي، وتتوقف عند التباعد النفسي بدل التلاقي ، أو أنها علاقة تُختصَر بتحية مقتضبة صباحا ً في الشارع قبل الذهاب للعمل، فهذا الفتور في العلاقة يعتبر نعمة لمن يجد من جيرانه بدل التحايا الصباحية إزعاجا ً وقلقا ً وشجارا ً دائماً وشكاوى عالقة في المحاكم، فقد كثرت قضايا انتهاك حرمة رابطة الجوار التي وصلت حداً مؤسفا ً بين الجيران لأسباب تافهة مثل رمي النفايات أو تصليح الأسانسير أو قطع الأشجار، الخ.
يبدو أن الأساس في علاقات الجوار أصبح سوء النية، وارتفعت الأسوار بين البيوت في مواجهة المتطفل الذي يسكن قبالتي. نسكن الدار ونرحل منها دون أن نعرف من يسكن إلى جانبنا، ووهنت علاقات كانت يوما ً انسانية وأسرية ، فاندثرت بذلك عادة أخرى من العادات والتقاليد الطيبة التي ردمت بقوة الاضطرار وبقوة المصالح وبقوة المنفعة الشخصية.
اميل سيوران فيلسوف روماني له في علاقة الجوار وجهة نظر نميل إلى تصديقها ، فهو الذي عاش الريف وحميميته يرى أن كلمة (جار) ليس لها معنى في المدن الكبرى، إنها مفردة كانت مشروعه في الحضارات الريفيّة أو المجتمعات المصغرة، حيث كان الناس يعرفون بعضهم عن قرب، ويُمكنهم أن يتبادلوا الحُب أو الكراهيّة في سلام.
قلّت بركة الزمن وانفصلت العلاقات وجيرة الأمس لم تعد كما كانت. انتقلت بنا التكنولوجيا إلى حياة السرعة وتغير وجه الحياة الاجتماعية بطغيان الماديات، فأصبح الجار شبحا ً يتمترس وراء جدار اسمنتي كأنه لا يود أن يراك ، بالكاد نتذكر اسمه حين نعلن سخطنا عليه لأن سيارته تقف في المكان المخصص لسيارتنا.
في الأعياد نقطع الطرقات شرقا وغربا من منزل إلى آخر بدعوى صلة الرحم بينما نختصر أقصر مسافة بين منزلين، فلا قمنا بالواجب تجاهه ولا تبرع جارنا بالحضور.
كانت أمي قبل أكثر من ربع قرن تعجن وتخبز وتضع الرغيف فوق الرغيف من صنع يدها وقبل أن نقضم طرفه، وقبل أن تتطاير منه رائحته الدافئة يكون قد صار رزقا ً مقسوما ً بين الجيران. اليوم يمر بك جارك في نفس البناء وبيده مئة رغيف دون أن يرمي عليك السلام. لكن ما بالك بجار يتذكر أن يدير مكبرات الصوت لحظة قيلولتك أو يقرر أن يبدأ نهاره، بالزعيق، الواحدة فجرا ً وقد بدأ جسدك يغسل عن نفسه آثار التعب. تخيل للحظة هذا الجوار!.
الراي.