نحن بحاجة إلى المزيد من الحذر والتلفت إلى اليمين والشمال قبل الاجابة عن هذا السؤال، حيث تستدعي حركة الشعوب العربية الكثير من الاشواق والامنيات والاحلام، ولأن الأحلام لا ثمن لها فمن المتوقع ان يرتاح الناس إلى وعود الساحات وحركة الجماهير وانها سوف تقلب الموازين وتأتي بالحكم الصالح وتقتلع الفساد من جذوره وتنهي حالة التخلف وتستعيد كرامة الشعوب، لكن الحذر الحقيقي ان ثمة تناقضات هائلة في حركة الشعوب العربية في سنوات العقد الاخير بدءا من اختطاف ما سمي ” الربيع العربي ” وصولا إلى الحراكات الشعبية العربية الراهنة الممتدة من الجزائر والعراق إلى لبنان.
السواد الاعظم يتفق على أن الاستقرار التقليدي في العالم العربي القديم يعني استمرار الفساد والاستبداد والهزيمة، ما دفع دوما للدعوة للانتفاض وتغيير الوضع الراهن، كانت بشائر الربيع العربي بمثابة ليلة القدر الموعودة بالخلاص، ولكن اختطاف تلك التحولات بالحروب الاهلية والتدخلات الخارجية أعاد الخوف من الجديد وزاد من غموض كل ما يحدث.
مصادر القلق على حركات الشارع العربي متعددة من ابرزها الاختطاف مرة اخرى من الخارج، و الوقوع في التضليل بفعل ما يسمى بحروب الجيل الرابع او الخامس، او الاستقطاب الذي يقود إلى الانقسام والحروب الاهلية او شبه الاهلية، وسط تناقضات حادة في مزاج الجماهير واجنداتها فالقضايا الكبرى التقليدية لم تعد تحركها ، فيما الحركات الشعبية اليوم تبدأ مطالبية واقتصادية ثم تحمل حمولات سياسية وايديولوجية كبيرة.
كان المستشرق الغربي المعروف مكسيم رودنسون قد كتب في نهاية الثمانينيات ان العرب يثيرون اكثر الانفعالات حدة في العالم في اشارة إلى المقاومة الفلسطينية وصعود الاسلام السياسي آنذاك، بعد اكثر من عقد اشار احد وزراء الخارجية الاميركية في مذكراته ان قرار غزو العراق كان معدا منذ العام 1999 الا ان خشية الادارة الاميركية من ردود فعل الشارع العربي قد اجلت القرار نحو اربع سنوات، وقبل نحو شهر صرح مسؤول اميركي في حوار مع ” الغد” ان الادارة الاميركية كانت تخشى من ردود فعل الشارع العربي على قرار نقل السفارة الاميركية إلى القدس الا ان العالم العربي استقبل القرار بالتثاؤب!
في السنوات الاخيرة ازداد الحديث عن الجيل الخامس من الحروب الذي تزداد فيه قوة التأثيرات الدعائية والحروب الإعلامية واستخدام شبكات الإعلام الاجتماعي والعنف الذي يبدو غير منظم، وتعتمد هذه الحروب في الاساس على خلق تناقضات واسعة بين المجتمع والدولة او داخل فئات المجتمع، واللعب بقوة في المناطق الاجتماعية والاقتصادية الرخوة من اجل خلق هشاشة تقود إلى دولة فاشلة بالمعنيين السياسي- الامني والاقتصادي.تستخدم هذه الحروب تكنولوجيا الاتصال بقوة وتبني خططها في نشر الارباك السياسي والاجتماعي بالطرق المعتادة والطبيعية ما يجعل البعض يعتقد ان المعركة تدار من الداخل، ويمكن فيها الفصل بين الخارج والداخل.
يعتمد مخططو معارك العقول على قواعد بيانات واسعة وشاملة توفر التفاصيل كافة عن أحوال المجتمعات وبنيتها التاريخية ومناطق الهشاشة فيها، وتصل إلى محو الثقة بالمؤسسات العامة وخلق شرخ عميق بين الدولة والمجتمع وكسر الروح المعنوية والثقة بالنفس وبالتالي خلق الفوضى ورفع مستوى الخوف ثم قيادة الجماعات والافراد بقوة الايحاء التي توفرها الدعاية عبر منافذها المتعددة.
الخطورة الكبرى في التحولات العربية، وفي محاولات اختطافها وفي الحروب الجديدة ليس الخوف من المؤامرة وحسب، بل من استمرار الفشل الذي قد يجعل الناس يتوبون عن تصديق فكرة الجماهير والحراكات الشعبية والتغيير بأكمله.
الغد