منذ أكثر من أسبوع ضبط العالم ساعته الاعلامية والسياسية على إيقاع الانتفاضة اللبنانية أو الثورة اللبنانية حيث افترش اللبنانيون في عموم لبنان الشوارع والطرقات والساحات العامة في ظروف جوية ماطرة وباردة معلنين برنامج النقطة الواحدة تحت شعار "كلن يعني كلن" أي رفض كل الطبقة السياسية سواء، من هم في الحكومة أو في البرلمان أو الاحزاب، وفي العرف السياسي هذا الرفض المعلن الشامل والكامل هو ثورة، ولكن هل رفع هذا الشعار كاف أم أن هذا الجهد الجماهيري المذهل والإبداعي الذي جمع بين العفوية الشعبية، والحرفية في الانضباط، والدقة في اختيار الرمزية "العلم اللبناني" فقط، بحاجة الى رافعة تقربه من الهدف السياسي والأساسي المعلن؟
هذا الهدف المتمثل بانهاء هذه الحقبة "العونية" التي عمقت أزمة لبنان وزادت من متانة وبشاعة زواج المتعة بين السلطة السياسية والمال والنفوذ والذي يمثله بصورة خاصة نموذج جبران باسيل صهر عون ووريثه السياسي والمتحكم الأساسي بقراره على كل المستويات.
بقاء "الثورة" على وضعها الحالي ودينامكيتها المستمرة منذ أواخر الأسبوع الماضي بدون برنامج سياسي محدد وبدون قيادات ميدانية تشرف وتدير العملية وبدون جدول زمني محدد يدخلها حتماً في الفراغ أو الفوضى، وفي الحالتين يسهل حرفها عن مسارها أو اغتيالها عبر ثورة مضادة، من خلال الصدام معها ومع جماهيرها باستخدام أي تنظيم سياسي للاحتكاك بها ونقل الحالة من السلمية والحضارية إلى العنف والدموية.
رغم ضحالة وسطحية الخطاب الذي وجهه الرئيس ميشيل عون للمنتفضين في يومهم الثامن، والكوميديا السوداء والفضائحية التي صاحبته، إلا أن من كتب الخطاب الممنتج والمقطع أورد مقترحاً مهماً وعملياً ألا وهو المقترح بشأن استعداد الرئيس للتفاوض مع وفد من المنتفضين ومناقشة مطالبهم.
في التاريخ القريب وتحديداً في الثامن من ديسمبر(كانون الأول) 1987 اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الباسلة في وجه قوات الاحتلال (الاقتباس اللبناني لهذا المصطلح يؤكد عمق الارتباط النفسي والنضالي بين الشعبين اللبناني والفلسطيني) وقتها مضت عدة أيام وتلك الانتفاضة التي حيرت العالم بلا رأس وبلا برنامج، ولكنها كانت شاملة وقاسية في مواجهة المحتل الإسرائيلي. شخصياً أذكر أن المرحوم ياسر عرفات ولدى زيارته الكويت التي كان يقصدها في الشهر أكثر من مرة سئل في مؤتمر صحفي في مكتب منظمة التحرير بالكويت عن قيادة الانتفاضة. أذكر تماماً كيف كان رد فعله سريعاً وأضاء في عقله فكرة القيادة لهذه الانتفاضة وقال: "نحن من نقود الشعب الفلسطيني". وبعدها بأيام خرج البيان الأول للقيادة الموحدة للانتفاضة وحددت مطالبها وشروطها وبدأ المسار السياسي لها الذي كان أحد ثماره هو بدء المفاوضات غير المباشرة بين منظمة التحرير والإدارة الأمريكية وقتذاك.
المثال الذي أوردته هو أكثر تعقيداً فيما الحالة الداخلية اللبنانية أقل بكثير، لذا أعتقد أن أولى الخطوات الواقعية لدفع هذه الثورة نحو قطف ثمارها هو التوجه من قبل قادة الحراك الميدانيين لتشكيل قيادة لهذه "الثورة"، على أن يتم الاختيار بعيداً عن الهوية السياسية أو الطائفية أو المناطقية وأن يكون المعيار هو الجهد المبذول في "الثورة" والكفاءة.
هذا المعيار بحد ذاته هو خلافي وصعب، ولكن يمكن تجاوز ذلك من خلال غربلة القيادة الميدانية وتقليل عدد القيادة ليكون هناك ممثلاً أو اثنين عن كل مدينة .
في النهاية يجب حماية الثورة من خلال إيجاد قيادة لها، حتى وإن شابها النقد أو الخلاف بشأنها، لأن استمرار الأمر على هذا الحال سيكون مدخلاً للفوضى ولإضاعة الجهد الجماهيري الفذ الذي بذل على مدى الأيام الماضية.
من اللحظة التي يصبح فيها هناك قيادة لهذه الثورة تفاوض رئيس الجمهورية تصير جسماً شرعياً مضافاً إلى مجلس النواب ومجلس الوزراء وستكون قد قطعت أكثر من نصف المسافة نحو تحقيق أهدافها.
أرجو أن يتحلى الثائرون بالعقل لأن الثوار وحسب تجارب الشعوب هم مجرد غاضبون يسقطون العقل وحساباته، ولكني أراهن على أن العقل اللبناني سينجح في تطويع غضبه ويروضه ويوظفه لخدمة وطنه.
24