من يقرأ ما يتداوله الناس في هذه الأيّام من الأقوال والآراء والأفكار يجد أنّ أكثرها زاخرٌ بالشكوى والتذمّر والتبّرم. ومن يتأمل هذه الشكوى يجد أنها نوعان: شكوى مسؤولة وشكوى غير مسؤولة.
أمّا الشكوى المسؤولة فهي التي تستند إلى حقائق ملموسة يملك الشاكي أدلّة مقنعة عليها ويشير إلى نتائجها المرئية والمحسوسة في واقع الناس والمجتمع، وهي كذلك التي تكون مشفوعة باقتراحات لحلّ المشكلة التي تعبّر عنها، وقد تكون هذه الشكوى من إشكاليّة فردية محدودة جدّاً إلى قضية وطنية عامّة. وفي رأيي أنّ وصف هذا النوع من الشكوى بالشكوى المسؤولة لأنّ المسؤولية الوطنية والاجتماعية والإنسانية تقتضي من صاحبها أن يبثّها دون تردّد أو خوف من أحد، والسبب الثاني في وصفها بالشكوى المسؤولة أنّ صاحبها يكون على استعداد لتحمّل نتائج شكواه من حيث القدرة على تقديم الأدلّة والإثباتات والمستمسكات والوثائق وغيرها.
أما الشكوى غير المسؤولة فهي الأكثر شيوعاً في المجتمعات غير المستقرّة، إذ يجرؤ كلّ صغير وكبير وجاهل وعالم وحاسد وفاسد وموتور على بثّ الشائعات والأخبار والأوهام الكاذبة على صورة شكوى، فتنتشر هذه الشائعات انتشار النار في الهشيم ويصدقّها الكثير من الناس حتّى ممّن يظنّ بأنّهم من أهل العقل والعدل والنباهة، فتصبح كأنّها حقائق عندما يتداولها العامّة، دون أن يملك أيّ منهم دليلاً على أيٍّ منها.
ومن الناس من يسمع شكوى صحيحة لكنّه يبني عليها ويضيف إليها ممّا وهبه الله من القدرة على الإضافة وإعمال الخيال، ومتى كانت مثل هذه الزيادات والمبالغات تستند إلى أصلٍ صحيح فإنّها تكون أدعى إلى أن يصدّقها الناس، وفي رأيي أنها تكون أخطر من الشكوى التي يكون أساسها كاذباً.
ومن الناس من تكون شكواه الأصلية من شيء شخصيّ لا يستطيع أن يبوح به، فيحمل شكواه على المجتمع ويتهم الناس كلّهم بالفساد والغشّ والخداع والكذب وما إلى ذلك، كالذي تكون علّته الأصلّية خلافاً مع مسؤوله المباشر في مكان عمله، فيصرف شكواه إلى ارتفاع سعر البنّ مثلاً أو إلى تربية أبناء الجيران، أو كالذي تكون علّته في بدنه كأن يكون مصاباً بالصداع النصفي أو قرحة المعدة، فيشكو من انتشار الغشّ في امتحان الثانوية العامّة، أو كالذي يعجز عن تحقيق هدفٍ أو طموح له، فيتّهم المؤسسات كلّها بالفساد والمحاباة وغير ذلك.
إنّ الشكوى غير المسؤولة أخطر على أيّ مجتمع من أيّ ظاهرة أخرى، لأنّها في نظري آفة أخلاقية وهي تفتك بالمجتمع وتنتشر كالعدوى في أوصاله، وقد تؤدي إلى اختلالات وانشقاقات وفقدان للسيطرة والأمن والاستقرار.
الرأي