من المبكر الحكم على مآلات ما يجري في لبنان من احتجاجات على الطبقة السياسية بعناوينها الطائفية والمذهبية والعائلية التي تسيطر على مقاليد الحكم منذ صيغة العام 1943 التي عدلت باتفاق الطائف العام 1989، والذي أنهى الحرب الأهلية التي امتدت منذ العام 1975 وانتهت العام 1990 نتيجة توافق سوري سعودي وبغطاء أميركي نجح في تحويل امراء الحرب لقادة سياسيين يحكمون ويتحكمون في بلد منهك بصيغة التوازن الطائفي لبلد تتقاسم فيه سبعة عشر طائفة ومذهبا الدولة بكل مؤسساتها وبمنطق المحاصصة والاقطاعيات المعزولة التي تضمن لكل زعيم حصته باعتباره الحامي لحقوقهم والراعي لمصالحهم.
الأزمة التي انفجرت بعد قرار فرض الضريبة على تطبيق “واتس اب” التي أعلنها وزير الاتصالات محمد شقير القادم من عالم الصناعة الغذائية إذ تملك عائلته شركة “باتشي” وينتمي سياسياً لتيار المستقبل الذي يتزعمه سعد الحريري رئيس الحكومة الحالية التي تواجه أخطر أزمة سياسية يمر بها لبنان وربما تشكل نقطة تحول في بنية النظام السياسي برمته إذا ما استمرت المطالبة بإسقاط المنظومة السياسية من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب وهو ما اختصره الغاضبون في ساحات لبنان بشعار “كلن يعني كلن” الذي يجسد حالة فقدان الأمل واليأس من كل الفريق الحاكم الذي يتناقض فيما بينه ولكنه يتفق على استمرار حالة الفساد التي أغرقت لبنان بمديونية وصلت إلى 86 مليار دولار.
هناك أزمة حقيقية ومعقدة بالرغم من محاولات الانحناءة التي تقدمها كل القوى السياسية المنخرطة في الحكومة لقواعدها الاجتماعية الموجودة في الشوارع والساحات، وبما فيها وجبة الإصلاحات العاجلة التي قدمها رئيس الحكومة سعد الحريري والتي رفضت فوراً من قبل المحتجين؛ هذا يضع الطاقم السياسي امام عدة سيناريوهات ربما يكون أقربها استقالة الحكومة وتشكيل حكومة تكنوقراط خالية من الأحزاب والدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة وربما المساس بصلاحيات الرئيس نفسه.
أقرب السيناريوهات هو استقالة حكومة الحريري الذي يبدو اليوم بلا غطاء سياسي سواء من الطائفة السنية نفسها التي ينازعه في زعامتها كثر وبعد رفع الغطاء من قبل “حاضنته العربية”، ولعل المفارقة هنا أن يصر خصمه التقليدي “حزب الله” على بقاء الحكومة ودعم الحريري في حين أن حلفاءه كالقوات اللبنانية والتقدمي الاشتراكي يبتعدون عنه إيثاراً للسلامة وركوب للموجة.
لكن استقالة الحكومة لا تعني حل الأزمة فالشارع تجاوزها ويبدو أن لبنان أمام أزمة قد تطول الى أن يتراجع الناس أو يشعروا بالملل وفقدان الأمل والعودة هنا دون تحقيق إنجازات حقيقية تعني تكريساً أكثر إيغالاً للمحاصصة والمكاسب الطائفية والمذهبية.
من المناسب هنا التريث قبل التنبؤ بأن المنطقة أمام موجة جديدة لربيع ديمقراطي وأن ما يجري في لبنان قد يؤسس لعبور جديد نحو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية؛ هذا الرهان وإن كان مشروعاً ومقبولا في الإطار النظري لكن شروطه الموضوعية والواقعية منتفية نتيجة التركيبة اللبنانية المعقدة طائفياً ومذهبياً ونتيجة غياب رأس وقيادة وبرنامج واضح للغاضبين في الساحات غير إسقاط الرئاسات الثلاث، ونتيجة التوغل العربي والدولي والإقليمي في الملف اللبناني؛ فمن يقبل من دول النظام الرسمي العربي أن يذهب لبنان بكل مكانته ودوره وتأثيره الحضاري ليشكل نموذجا ديمقراطيا حقيقيا قد ترتد تداعياته على المحيط فالديمقراطية عدوى أخطر من كل الأمراض ولا يمكن السماح لها بالمرور بسهولة؛ العرب المؤثرون والأطراف الإقليمية يقبلون بقاء الصيغة الحالية مع تحسينات ديكورية لا قيمة جوهرية لها وإلا فخيار الفوضى جاهز؛ في لبنان طالما كانت التسوية قائمة أن قوته في ضعفه وهي الصيغة المقبولة لدى الجميع.
الغد