حين اعتلى "الفلسطيني" فؤاد شحادة عرش العالمية
د. اسعد عبدالرحمن
21-10-2019 01:02 AM
لو أنت، يا فؤادي، سألتني أين الهوى (الذي) "كان صرحا من خيال فهوى"، أجدني أخالف الشاعر فأجيبك: ليس صحيحا أن الهوى قد هوى!!! بل، على العكس من ذلك، الهوى قد ارتقى... وارتفع... وسما حتى استقر عند فقيد العدالة والقانون والعمل الوطني والعلم والمعرفة والتواضع والعطاء (فؤاد شحادة) رحمه الله.
ولمن عرف "فؤاد شحادة" أو لم يعرفه، أقول: هذا (فؤاد) الذي هو حقا – (فؤاد) كبير يمشي على قدمين! فكل ما في (فؤاد) ... فؤاد، وأجمل ما في (فؤاد) كونه ذلك الفؤاد.
في كل مرة، أمارس فيها "حق العودة!!!" إلى (رام الله) لطالما تنعمت بزيارة الأخ والصديق والحبيب (فؤاد). بل، كم من مرة قصدت فيها (رام الله) وحافزي الأكبر أن أرى (فؤاد) الذي لطالما أنعش مني فؤادي المنهك من بشاعة حقيقة الاحتلال الإسرائيلي المتبدية على أكثر من صعيد. كنا نجلس إلى بعضنا البعض نحتسي .... القهوة (بالأحرى: النسكافيه "سرنا "الشهير")، ونتسامر! نبحث في أمور شتى، نتمازح أحيانا بقفشات، وأحيانا بنكت مفرحة، وتارة ثالثة بإطلاق نكت سوداء خاصة كلما جاءت سيرة الاحتلال الصهيوني الأسود ومقارفاته السوداء. نتبادل الآراء في كتب قديمة وأخرى حديثة. نمارس ما كاد يصبح "هواية قومية" على امتداد الوطن العربي، أي نمارس "النميمة ... لكن ... الهادفة"! فما من مرة "نممنا" فيها على زعيم أو رئيس/ أو وزير أو وزيرة/ أو مسؤول أو مسؤولة/ طبيب أو طبيبة/ مهندس أو مهندسة... الخ إلا وكان "الوطن... من وراء القصد"! ولطالما بحنا لبعضنا بكل أنواع الهم العام: السياسي، والوجداني، والفكري، والإنساني. لا حواجز ولا كوابح ولا سواتر بيننا سواء في اللغة أو في خلايا الدماغ. يبوح المرء فينا كأنما يبوح لنفسه، فما أمتع جلسات صاحب الفؤاد الكبير ... (فؤاد)!
الأستاذ (فؤاد شحادة) سنديانة كبيرة من سنديانات فلسطين الوارفة الظلال. في أفيائه تدرب مئات المحامين أو أكثر. بل إن الامتدادات القانونية لدى (فؤاد) تجاوزت فلسطين إلى الشقيق التوأم الأردن. ثم من الأردن أو فلسطين... إلى بلدان عدة على امتداد الوطن العربي وعديد البلدان في العالم. ومع أن الأستاذ المحامي (فؤاد) قد عانى لسنوات طوال من فقدان بصره، فإنه –بعد أن تجاوز حاجز (93) سنة من عمره الحافل - لم يستطع أحد الزعم بأنه رأى أو عمل أكثر من (فؤاد شحادة). ولذلك، وفي العام (2016) اعترفت له "موسوعة جينيس" بالفضل، وسجلت له، رسميا، لقب "أطول وأقدم ممارس لمهنة المحاماة في العالم"!! انتبهوا معي: "في العالم"!
لطالما تحدثت عن ألمي الكاسح من بشاعة ما حدث لفلسطين ولنا نحن معشر الفلسطينيين في السنوات الـ (75) التي مضت من عمري. فالحسرة مقيمة في أعماق قلبي كلما تذكرت أنه عند مولدي، كانت فلسطين التاريخية كلها لنا (باستثناء 5.6% منها تم منحها لليهود الصهاينة من حكومة الانتداب البريطاني ومن بعض البيوعات العربية والفلسطينية النادرة بل الشاذة). وحين كنت أبوح لأستاذ الأجيال (فؤاد) بهذه الحقائق والمشاعر كان يجيبني: "ماذا، إذن، أقول... أنا؟!! وعن أي مرارة أتحدث؟! فإن كنت أنت قد ولدت (3.5) سنة قبل قيام "إسرائيل" فأنا ولدت بعد (3.5) سنة من مجيء "الانتداب البريطاني" الذي أسس نويات الطرق والمسالك لقيام الدولة الصهيونية". ومعلوم أن الأستاذ (فؤاد) كاد يكون من أوائل شهداء فلسطين في أربعينيات القرن الماضي حين تعرضت في العام 1948 سيارة فايز المهتدي (وكان يسوقها ومعه فؤاد ووالدته) إلى قصف صهيوني استشهد فورا على أثرها، فتولت الوالدة السيدة ماري صروف (إحدى أبرز رائدات فلسطين في عدة مجالات) قيادة السيارة وهي تتدحرج نحو الوادي بعد أن أصيب فؤاد بعدة رصاصات (بقي بعضها في جسده حتى لحظة رحيله).
أستاذنا المحامي (فؤاد) ضرير نعم، لكن مع انعدام الضوء في بصر عينيه، بات يبصر بقوة البصيرة! وبصيرته – أشهد – أقوى من بصر غالبية من عرفت، وأنفذ من بصائر غالبية من قابلت.
تسعيني نعم، لكنه بقي حتى رحيله على رأس عمله في مكتبه (حيث المحامون من أبناء العائلة الذين ورثوا المهنة عن الأخوين المحاميين عزيز وفؤاد شحادة، إضافة إلى غيرهم من المحامين الذين كانوا يعملون إلى جانبه ويتعلمون منه). واللافت المبهر أن المحامي (فؤاد) كان يعمل على مدى 6 أيام من أيام الأسبوع، من الثامنة صباحا وحتى الخامسة مساء. ثم يعود إلى البيت، فيستريح نصف ساعة أو يزيد قليلا، ثم ينعش نفسه بحمام ليجلس بالتالي أمام من يقرأ له (ويا لكثرة من يحبون القراءة له، خاصة السيدات المثقفات). كانوا يقرأون له لمدة ساعة باللغة العربية، إضافة إلى ساعة باللغة الإنجليزية أو بالعكس. وتتخلل ساعات القراءة ومضات تنطلق منه على شكل ملاحظات، آراء، أو نكات هادفة!
لله درك يا (فؤاد) ... يا درّة المحامين، ويا درة استثنائية من درر البشر. واليوم، بعد أن كنت تحامي عن العباد والبلاد وتستحصل لهم على حقوقهم، نراك اليوم وقد دخلت حمى الرب في السماء، فأصبحت أنت نفسك، هذه المرة، في حماية "الحق" الذي يعلو ولا يعلى عليه.
فهنيئا لك المقام الجديد في السماء... بعد أن كنت يا (فؤاد) حاميا أثيرا ونادرا من حماة الحق والعدل على امتداد رقعة كبيرة من الأرض الفلسطينية والأردنية بخاصة، والأرض العربية بعامة. ألا بوركت في دنيانا الفانية، وبوركت في دنيا الآخرة.