الدغمائيّة: آثارها وانعكاساتها ..
أ. د. صلحي الشحاتيت
19-10-2019 01:23 AM
الحوار وهو الطريقة الفعّالة لتبادل الأفكار والخبرات والمعارف من خلال النقاش المفيد؛ الذي يساعد في التعرف على مستوى تفكير الآخرين؛ فيكشف عن العديد من الحقائق المخفيّة والأفكار النافعة، كما يتجنب العديد من المشكلات، سيما أنه أحد أهم وسائل التواصل في المجتمعات ككل، ويجب أن نتذكر سويّة ضرورة الحفاظ على أساسيات الحوار، حتى لا يفقد فاعليته وعندها لن تتحقق الأهداف المرجوّة منه.
ومن الأسباب التي تجعل الحوار يفقد فاعليته، أن أحد الأطراف يمتلك عقلاً متحجراً جامداَ منغلقاً على نفسه، فيعتقد أن لديه الثقة الكاملة في معرفة كل شيء، وهذه الثقة تمنعه من معرفة الحقائق واكتشاف ما ينقصه، وهؤلاء الأشخاص يطلق عليهم الدغمائيون، فالدغمائيّة تعني التعصب بشكل مطلق لفكرة معينة حتى لو لم يكن فيها دليل؛ مع الإصرار عليها والتمسك بها ورفض أي أفكار أخرى معادية لها، وتعرف الدغمائية بأنها ظاهرة إنسانية كانت موجودة منذ القدم إلى عصرنا الحالي مع إختلاف مسمياتها، فقد ارتبطت بمفهوم التشدد أو التعصب الديني والعقائدي، وهي كلمة يونانية الأصل تعني "الرأي الأوحد" أو "الجزميّة"، وظهر هذا المصطلح في الفكر المسيحي الكاثوليكي، فقد كان يقوم على مبدأ "الطاعة المطلقة لبابا الكاثوليكية والخضوع لتعاليمه وعدم مخالفتها". ومن جهة أخرى فالدغمائية لا تقتصر فقط على التعصب الديني، فقد تعددت أشكالها في عصرنا الحالي، فمنها: التعصب السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي، وغيرها الكثير في مختلف المجالات.
يتميز العقل الدغمائي بأنه عقل يعيش في ذاته المتضخمة؛ فهو ينفصل عن الواقع أحياناً من شدة تمسكه بأفكاره والتعصب لها، وهذا من شأنه أن ينعكس سلبًا على حياته، فيتحول مع مرور الوقت إلى مريض نفسي، وبعدها يصبح فريسة سائغةً بين فكّي الواقع وأزماته؛ فهو ينظر إلى الأمور من خلال نافذة ضيقة، ولا يستطيع أن يُخرج من عقله إلا ما تم ادخاله مسبقًا، كما يمكن تسميته أيضاً بالعقل الوثوقي فهو يرفض أية حقائق قد تتسبب في زعزعة قناعاته السابقة، ويعتقد أن لديه أحكام صحيحة ونهائية لا مجال للنقاش فيها أو تجربتها، لكن الواقع مختلف تماما فمواقفهم هذه ليست ناشئة عن صدق واقتناع مطلق، بل تكون نتيجة تجربة سيئة أو صدمة نفسية تعرض لها، فهذا الشخص يتصور أنه يمتلك مرجعاً منطقًيا يرجع إليه كلما واجه افكاراً جديدة، فيفسر جميع الظواهر تبعًا لمنطقه وقناعاته.
ولكن ما لا يعلمه الدغمائيون أنه من المحتمل أن المحيطين بهم قد يتحكمون بأفكارهم ويُعتبرون المحرك الأساسي لعقولهم، فغالباً ما يتم الانحياز لمعتقد أو لفكرة معينة لمجرد أن الأكثرية من الناس يدعمونها بغض النظر عن صحتها، ذلك لأنهم لا يتمتعون بالحرية الفكرية المطلقة كغيرهم، فهم محصورون بمساحة فكرية قد تم تحديدها مسبقا لهم من قبل هؤلاء الناس، فيبقون تحت وصايتهم الفكرية، ويصبحون بمثابة المرجع الفكري لهم، فيبنون قناعاتهم وعلاقاتهم ويحتمون بها، لا يقبلون الرأي الآخر ويرفضون النقاش معه؛ خاصةً إذا كان مصدره جهه غير معلومة لديهم، فهم مرتبطون بالأشخاص لا بالأفكار، وبالجماعات بعيدًا عن المبادئ.
العقل الدغمائي بشكل عام يسيطر على الناس ويريدهم نسخة من منهجه وتفكيره وأسلوب التعبير الخاص به، ويجسد مقولة ”إن لم تكن معي فأنت ضدّي”، وهذا السلوك الدغمائي يجب السيطرة عليه ومعالجته، حتى يتحول من حالة الدغمائية إلى الحالة اللادغمائية؛ ليصل إلى مرحلة الإدراك والتغيير، وتقبل الرأي الآخر والاختلاف، وتعلم مهارة الانصات والحوار الفعال.