كنت خائفاً من ذلك اللقاء الذي سيجمعني وأصدقائي بها ..، فقد عرفتُ مراوغتها وقدرتها على الحوار، فأخذت أصلي بمن معي داعياً ومتوسلاً لئن أكون قادراً عليها، ورفعت يديَّ للسماء ملتمساً الرحمة بأبناء قومي؛ راجياً أن لا يحسبوها كعادتهم كنزاً ثميناً، وأن يجعل الله الصبر من صفاتنا ؛ لكي لا نبيع القنوط دنيا ودينا، وحتى لا تَزِيغ قلوب الجراد فتأكل كرومنا، ويبيت مستقبلنا يبكي على أطلال ماضينا.
كانت هناك امرأة تدعى (يهود)، صارمة القرار؛ عنيدة الرأي؛ ساحرة القول؛ لديها من القوة الشيء الكثير، ملتصقة بحفنة من أقربائها، تحاول فرض سلطتها بمراوغتها وزرع العقبات أمام كل من يحاورها …، وكان هناك لقاء منتظر يجمعني وأصدقائي بها، فالكل منا كان متحمساً للفوز عليها؛ ليحقق وجوده ووجود من حوله، ويعيد ما فقده من حقوق اغتصبتها تلك المرأة…، حتى جاء الموعد المتفق عليه، فدخلنا مسرح الحوار؛ بعد أن مررنا بآلاف الوجوه واجتزنا صفوفاً كثيرة من المقاعد التي كان يعتليها أشخاص كثيرون، ينتظرون اختتام تلك الجلسة، يأملون بتحقيق ما يتمنوه؛ بعد أن عاشوا زمانهم بمضارعٍ مريرٍ وحيران، وأصبح الأمر فيهم دليلاً للعصيان، وباتت (كان) وحيدة أخواتها بعد أن دخلت أوراق ماضيهم في حقيبة النسيان.
بدأت المناظرة…، وصرنا نطالب كعادتنا بتحديد شكل اللقاء، ونحاول أن نرسم ملامح اللحظة، نتنافس في الحديث، ومن الذي سيجد كلاماً منمقاً أكثر من الآخر، ليتمكن من اقتحام أسوارها العظيمة، والدخول إلى عقلها الباطن، ليجعل منها حطاماً يرمى في زاوية من زوايا التاريخ، فصار كل واحد منا يعلو صوته على الآخر، وبدأت الشعارات، وتناثرت العبارات، فأخذنا نركب مركباً واحداً، نسير فيه إلى بر الأمان…، فلعل هذه الجلسة تختلف عن غيرها من الجلسات السابقة …
بقينا على هذه الحال؛ حتى ظننا أننا اقتربنا من فتح حصونها، وكسر حواجزها ..، ولكن ما أدهشني أنني كلما التفت إليها؛ أجد فيها صمتاً غريباً، فقد أيقنتُ لحظتها أنها كانت تبحث عن مخرج تنجو من خلاله وتُخرج نفسها من مأزق عباراتنا الصارخة…، أعجبني ذلك المشهد، فأنا أنتظر تلك اللحظة منذ زمن طويل، فبدأت أنتفخ شرفاً لما سمعت من أصدقائي، ولما أشاهده الآن في وجهها الذي ارتسم عليه الشحوب وطلاه الاصفرار، فالتفت خلفي فإذا المصفقون هنا والهاتفون هناك، فصرت أشعر بطعم الانتصار واقترابه، وظللت أعيش هكذا بتلك الأجواء؛ حتى جاء دورها في الحديث ..، فأخذ صوتها يعلو بعباراتها الخائفة، وهي تنظر إلينا واحداً تلو الآخر؛ باحثة عن مخرج تلج فيه، حتى نظرت إليها وقد انفرجتْ أساريرها عندما فتحت حقيبتها مخرجة تلك الحشرة الصغيرة، لتطلقها فتطير فوق رؤوس الحاضرين، محلقة في سماء ذلك المسرح…، وقفنا جميعاً نراقب صمت تلك المرأة؛ باحثين عمّا يجول في خاطرها في تلك اللحظة، وهي تحدق بنظرها إلى تلك الحشرة الطائرة …، حتى استدركت مسترسلة بالكلام -بعد أن أيقنت الصمت في وجوهنا- منوهة عن نفسها بأنها امرأة ضعيفة؛ ليس لها من القوة من شيء؛ ولكنها ململمة على نفسها، متهمة إياي وأصدقائي بأخوَّة (كقابيل) و(هابيل)، وإننا لسنا على قلب رجل واحد، ولم يعد يفدينا كبش إسماعيل، وبانت فرقتنا للمعتدين وبان الضعف واللين، حتى طارت حمامة سلامنا ولم يُسمع لها الهديل.
بقينا هكذا، ندافع في مسرحنا، ولم نلق بالاً لما قالته فينا، فقد كنا صامدين مستأنسين بأنفاس من حولنا، مرتكزين على ركائزنا التي جئنا من أجلها، وعباراتنا الصارخة تملأ المكان، وتشحن نسمات الهواء رجولة وعروبة…، حتى نظرنا إلى تلك المرأة وهي تحدق في سماء ذلك المسرح من جديد؛ باحثة عن تلك الحشرة التي لم تزل طائرة فوق رؤوسنا، معرِّفة بها أنها حشرة حُقنت بسموم قاتلة، وأنها ستلقي بتلك السموم على رأس كل من في المكان؛ إلا رجلاً على رأسه ريشة بيضاء …، وقفت في مكاني، نظرت من حولي، ألتمس الصمت والتعجب في وجوه الحاضرين، فقد صار كل منا يبحث عن ذلك الرجل متحسسين رؤوسنا؛ راجين أن نلقى تلك العلامة التي ستحول بيننا وبين الموت؛ فأصبح همّنا النجاة من سموم تلك الحشرة المزيفة، تاركين ما جئنا من أجله، هاربين من ذلك المكان، متفرقين في ظلام ليلة حالكة، لا يسمع فيها سوى العواء والنعيق، وتركنا وراءنا رجالاً مهددين في زمن لا يُعرف فيه العدو من الصديق ، وباتت أزهاره تفتقر العطر والرحيق.
وهكذا ...، فقد تعلقنا بصاحب الريشة البيضاء، ونسينا تلك الوفود الضائعة، وغرقنا في الأمنيات؛ وتمايلنا على المسارح طرباً؛ وأرضنا تحاصرها المدافع والحشود، فضاعت أمانينا وعاشت في أيادينا القيود، وصرنا نكتب شعارات ونهتف هتافات بأصوات لا تضاهيها الرعود، فدخلنا بالجهاد طريقاً لتحرير مسرحنا…؛ فهربنا من حشرتها ودخلتْ معاقلها الأسود، فبعد أن اجتمعنا بوحدة كوحدة (عادٍ) (وثمود) …، رددنا الشعارات في كل قطرٍ، وهتفنا ثم قلنا ثم قلنا، وبعد القول قلنا، حتى قالت هي …، وكان القول ما قالت يهود.