تجبر "ملاحم العرب في القرن الحادي العشرين" الإنسان العربي على العودة بوعيه الظاهر والباطن إلى "ملاحم" العرب في الجاهلية، وأشهرها بالطبع "ملحمة داحس والغبراء"والتي اقتتلت فيها القبائل 40 عاما بسبب سباق بين فرسين، وملحمة "البسوس"والتي اقتتلت فيها القبائل العربية 40 عام أيضا بسبب قتل ناقة لامرأة اسمها البسوس.
القليلون يعرفون أن بطل العرب في الجاهلية ورمزنا التاريخي في البطولة عنترة العبسي قتل في حرب داحس والغبراء بسهم مسموم، وهي الحرب التي قتل فيها أيضا زعيم الصعاليك "الإصلاحي" بلغتنا الحالية عروة بن الورد.
عنترة رمز البطولة العربية والذي قاتل الفرس في معركة ذي قار، التي انتصر فيها العرب على الإمبراطورية رغم قلة عددهم، لم يقتل في هذه المعركة المصيرية، ولكنه قتل في حرب داخلية أو إذا شئنا "حربا أهلية عربية"، ولا تخفى الرمزية المزرية على مصرعه "عن بعد وبسهم مسموم"..
أسوق هذه المقدمة بين يدي الكتابة عن "الملحمة الكروية المصرية الجزائرية" التي تحولت من مجرد لعبة، يركض فيها 22 شابا خلف قطعة من الجلد المنفوخ بالهواء،إلى حرب هويات "زائفة" وبحث عن "انتصارات وهمية".
ما يجري من انفعال واحتقان وغضب وتحشيد "مصري وجزائري" يعبر عن أزمة عربية عميقة متشعبة ومتعددة الوجوه، وهي لا تختص بمصر والجزائر، ولكنها تطال دولا وشعوبا عربية أخرى. وهي تشبه إلى حد حرب داحس والغبراء رغم اختلاف الزمنين.
لا يمكن تحليل ما يجري من سجال دون تفكيك المشهد في العالم العربي،الذي تغرق فيه الشعوب العربية في سلسلة طويلة من الأزمات من فقر وبطالة وفساد وانسداد الأفق السياسي وغياب الحريات والتمثيل والمسائلة وعدم جود تداول للسلطة، وتراجع حكم القانون والعمل المؤسسي ، وهي أزمات تحتاج إلى "ثقوب" لتنفيسها لان تراكمها قد يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه. وهذا يدفعنا للولوج في العمق من اجل فهم الكيفية يعمل "كهان التنفيس" على صناعة هذه الثقوب للسيطرة على الغضب الشعبي وتنفيسه في مسارات "مقننة" يمكن التحكم بها تماما، باستخدام "خلطة عمليات" من علم نفس الجماهير ووسائل الإعلام والإثارة والتحركات المسرحية المدروسة، وتحويل الشعب إلى قطيع يسهل قيادته والسيطرة عليه.
هذه العمليات تبدأ بخلق "عدو وهمي" وشيطنته، وقصف الجمهور بسلسلة من الأخبار المثيرة وتحويل القضية إلى "مولد" يشارك فيه السياسيون ورجال الدين والصحفيون والمثقفون وعامة الناس للدفاع عن "شرف الأمة"، وبهذا تنجح النخب الحاكمة أو قوى الضغط "اللوبيات" وشركات العلاقات العامة والصحف ومحطات التلفزة أو غيرها من حرف المسار وإدخال الجماهير في طريق محدد سلفا مسيطر عليه، لتحويل الأنظار عن المشاكل الحقيقة والقضايا الأساسية إلى قضايا ثانوية ومشاكل فرعية ومعارك مفتعلة لإحراز انتصارات وهمية على "الأعداء المفترضين"
دعونا نطبق هذه النظرية على مصر والجزائر لنرى الأشياء كما هي اعتمادا على مصادر موثقة مثل " تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية العربية لعام 2009"، وهو مصدر يصعب الطعن في مصداقيته.
يقول التقرير أن مصر تحتل المرتبة 111 في الترتيب العالمي في قائمة التنمية البشرية، حيث يقبع 41% من المصريين تحت خط الفقر، وان أفقر 10% من المصريين لا يحصلون على أكثر من 3.7% من الثروة، ويحصل أفقر 20% من المصريين على 8.6% من الدخل في حين يحصل أغنى 20% من المصريين على 43.6% من الدخل ويحصل أغنى 10% من المصريين على 29.5% من الدخل.
وفي الجزائر التي تحتل هي الأخرى المرتبة 111 في التصنيف الدولي لا تختلف الصورة كثيرا، فأفقر 10% من الجزائريين لا يحصلون إلا على 2.8% من الدخل وأفقر 20% من الجزائريين يحصلون على 7% من الدخل في حين يحصل أغنى 20% من الجزائريين على 42.6% ويحصل اغني 10% من الجزائريين على 26.8% من الدخل.
الصورة واضحة تماما في البلدين، فهناك أقلية تتمتع بالثروة والمال والحكم وهناك اكثرية محرومة. وهذا دليل على غياب عدالة توزيع الثروة بين المواطنين في البلدين.
وفي التفاصيل المذهلة التي يوردها التقرير أن 3.1% من المصريين يحصلون على دولارا واحد يوميا، ويحصل 43.9% من المصريين على دولارين ويقول التقرير أن 51.2% من الفقراء المصريين لا يأكلون اللحم وان 33% لا يشترون فواكه وان 58.8% يكتفون بوجبتين يوميا، ويؤكد أن 61% من المصريين يعتمدون في طعامهم على الفول والعدس فقط. واقر وزير التنمية الاقتصادية المصري بان معدل الفقر في مصر ارتفع من 19% العام الماضي إلى 21% العام الحالي. أي أن واحدا من كل خمسة مصريين تحت خط الفقر حسب التعريف الرسمي للفقر. وذهب رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري أبو بكر الجندي إلى القول أن 10 ملايين شخص يعيشون في أفقر 1000 قرية في مصر 51.8% منهم تحت خط الفقر.
أنقل الصورة إلى الجزائر التي يشير تقرير الأمم المتحدة إلى أن 46% من شبابها يعانون من البطالة وان نسبة الفقر فيها 22.6% وان 15.1% من الجزائريين يحصلون على دولارين يوميا.
هذه الإحصائيات تمنحنا الجرأة للحديث عن وجود أزمة عميقة في مصر والجزائر، ودول عربية أخرى بطبيعة الحال، وهي أزمة نظام سياسي بالدرجة الأولى وتعبير عن فشل السياسات والإدارة وخطط التنمية الاقتصادية، وهي أزمة تولد احباطات لدى الفئات الشعبية المحرومة والمقهورة والمعدمة التي يخشى أن تسعى للتعبير عنها بشكل عنيف كما حصل في أكثر من بلد عربي.
وهذا بالضبط ما يدفع النخب الحاكمة إلى البحث عن وسائل لتصدير أزماتها الداخلية، وإشاعة حالة من التوتر الاجتماعي لتفريغ الاحتقان الكامن قبل انفجاره باستخدام وسائل الإعلام وتوظيف الرياضة لتصفية الحساب مع "الأعداء الوهميين"، ونسيان الفقر والبطالة والفساد والاستحواذ على السلطة والثروة وكبت الحريات.
إنها حالة " تكوير للازمات" يدفع فيها "كهان الإعلام والسياسة والعلاقات العامة ورجال الأعمال" الجماهير العربية للهروب من واقعها المر، إلى نشوة وهمية مثل تلك التي يصنعها المسكر أو المخدر، نشوة تفتك بالعقل والروح والجسد، وتفتك بالحياة نفسها، وتحولنا إلى مجرد "مساطيل" على خشبة مسرح الحقيقة.
hijjawis@yahoo.com