"بنو يعرب" لا يدرون من يضربون!!!
ذكر أسامة بن منقذ، وهو أحد قادة صلاح الدين الأيوبي، أنه حضر في دمشق تظاهرة عميان ضد مسؤولهم ابن البعلبكي، الذي كان حينها يتولى وقفهم.
فندب لهم صاحب دمشق (واليها) أحد الأمراء. فاجتمع العميان في نحو ثلاثمئة رجل في إيوان كبير. وكل واحد منهم كان يحمل عصاه إلى جنبه.
ثم تَحاوَرَ العميان في الحديث مع مسؤولهم، بحضور ذلك الأمير. وتنازعوا وتخاصموا ساعة من زمان، وعلت أصواتهم لكثرتهم. ولم يتمكن ذلك الأمير من التدخل لحل منازعتهم. ثم تواثبوا، فارتفع في الإيوان نحو ثلاثمئة عصا في أيدي عميان لا يدرون من يضربون.
إلى هنا انتهت القصة، وتوقف دور التاريخ في الرواية. وهو التاريخ نفسه الذي إن أردنا فلنا منه العبر الكثيرة، وكما لنا منه الدروس التي لا تُعَدُّ ولا تتوقفُ عند حصرٍ أو إحصاء.
وعليه، وكدرس من دروس التاريخ إياه، فلك الآن أن تتخيل هذه اللوحة الطريفة من الناس، حيث يتحاور فيها بالعصي هذا العدد من الرجال، لا يعرف أحدهم أين يتوجه، ولا من غريمه، ولا من يقف أمامه أو عن يمينه أو عن شماله. ولك أن تتخيل أيضا أن كل واحد منهم كان يصيح، ويتهدد، ويعبر عن غضبه بما يشاء من كلام، وهو لا يعرف لمن كان يتحدث، ولا إلى من كان يوجه غضبه.
عندما كانت تصعب الأمور، ويزداد الهرج والمرج، وتتسع شقة الخلاف، ولا يُرى في الأفق بصيص أمل في التلاقي عند هدف، كنا نسمي ذلك الحال "حوار طرشان". وربما، وقبل سماع قصة هؤلاء العميان، لم يكن يخطر لأحد منا ببال أن هناك صراعا من نوع آخر، أكثر غرابة وأشد خطرا، نستطيع أن نسميه "صراع عميان"، تتداخل فيه الأمور، وتتعالى الأصوات، وتتشابك الأيدي، وتختلط المطالب، بحيث لا يعرف أحد من ذوي العصي أنفسهم من هو غريمه، وبحيث يستحيل على ذي البصر المتفرج أن يعرف من هو "ديانها"، ومن هو "المطالب".
والسؤال المشروع الذي لا بد من أن يدور في الخاطر في ساعة من ساعات التأمل هو: أليس وضع بني يعرب شبيه بهذا الوضع، الذي إن شئت فسمِّهِ "حوار طرشان" أو "حوار عميان" أو "حوار مشلولين" أو "حوار عديمي التفكير" أو "حوار مسلوبي الإرادة"؟
أعطوني دولتين عربيتين اثنتين فقط متفقين اتفاقا دائما على هدف استراتيجي مفيد واحد. أعطوني دولتين عربيتين اثنتين فقط بينهما مستوى من التفاهم في مختلف مجالات الحياة أنتم راضون عنه. أعطوني دولتين عربيتين اثنتين فقط يمكن للتقارب الظاهري المصطنع القائم بينهما أن يعود بشيء من النفع على شعبيهما على المدى القريب والمدى المتوسط، ولا أقول المدى البعيد. أعطوني دولتين عربيتين اثنتين فقط يلتقي حاكماهما، ولا يلاقي أحدهما الآخر بقلب مترع بالحقد والصغينة، ولا يصافحة بيد فيها ألف خنجر وخنجر، ولا يقبله بأنياب ملؤها السم الزعاف.
لا، بل ابتعدوا عن مخادعة النفس ... وأعطوني دولة عربية واحدة حوار شعبها في الداخل ليس "حوار طرشان"، ولا "خلاف عميان"، ولا "تصارع مسحوبي الدسم، ومشلولي التفكير، ومسلوبي الإرادة".
إلى أين، وإلى متى، وإلى ماذا، يا أمة العرب؟ والله احتار دليلنا فيكم. ألا ترون أنكم سائرون إلى هلاك، بأرجلكم أنفسكم لا بأرجل غيركم، وبتخطيط وتدبير وإيحاء وإيعاز من أعدائكم الماكرين، الطامعين، الحاقدين، وأنتم تعرفون ... ولا تعترضون ... ولا تحتجون ... ولا تتمنعون؟
اللهم اهدِ قومي، فإنهم، يا رب، ... يعلمون، ولكنهم مخدوعون ... مخترقون ... مضحوك عليهم ... وهم عن حالهم وعن مستقبل أبنائهم وأوطانهم ... غافلون!