رحل المفكر المصرى الكبير «عباس محمود العقاد» عن عالمنا فى مارس 1964، وكنت طالبًا فى السنة الثالثة بكلية الاقتصاد فى جامعة القاهرة، وهزنى النبأ لأننى توهمت أن صلابة العقاد سوف تكون عصية على الموت، وسوف يقاومه أكثر مما فعل، فالكوفية حول رقبته وغطاء الرأس يزيدانه دفئًا ووقارًا، وأظن أن العقاد شخصية فذة لا يختلف عليها الكثيرون، ولقد قرأت مؤخرًا دراسة موجزة للأديب «السماح عبد الله» حول العقاد وأخلاقياته بما فى ذلك نفاقه لفاروق ملكًا، ثم انقلابه عليه بعد ثورة يوليو، وفى ظنى أن الأمر لا ينتقص من قدر العقاد، كما أن كاتب تلك الدراسة لا يختلف معنا فى ذلك، فعملية الفصل بين الموهبة والأخلاق أمر عرفناه كثيرًا حتى تعودنا عليه، إذ إن التميز الفكرى لا يعنى بالضرورة السمو الأخلاقى، بل ما أكثر ما تجاوز العقاد على رفاق عصره من أدباء وشعراء حتى تطاول على قامة شوقى الشعرية، برغم أننى- ولست ناقدًا أدبيًا- أرى أن شعر العقاد لا يستهوينى، بل وددت لو أنه لم يقتحم ذلك المجال، ولكنه كان موسوعيًا يريد أن يضرب فى كل ميدان بسهم. أعود إلى يوم رحيله، وقد كنت أسكن وقتها شقة مع زميل لى فى حى الدقى، وشعرت يومها أن عصرًا يطوى صفحاته ويلملم أوراقه، فجلست أكتب حوارًا خياليًا تستجوب فيه السماء العقاد، ذلك القادم الجديد حول استخدامه لعبقريته وتوظيفه لثقافته إلى جانب بعض الخطايا والنزوات، وشطح بى خيال الشباب فاقتحمت حياته الخاصة وكراهيته للمرأة وتعلقه بالفنانة «مديحة يسرى»، التى سألتها شخصيًا قبل رحيلها بسنوات عن صحة ما أشيع عن غرام العقاد بها، فكانت إجابتها ابتسامة حياء تؤكد القصة ولا تنفيها، حتى إنه قيل إن اللوحة التى احتفظ بها العقاد فى حجرة مكتبه، وكان قد رسمها له الفنان «صلاح طاهر» بطلب منه، تصويرًا لطعنة امرأة فى صدر العقاد، وكأنما هى ترد إليه الصاع صاعين بعد هجوم طويل ومرير قاده ذلك المفكر الكبير ضد المرأة عمومًا، وكأنه توأم «شوبنهاور»!، ثم دلفت فى ذلك الحوار الخيالى إلى علاقة العقاد بالنازية كرهًا وانتقادًا، وقربه من الوفد عشقًا وهيامًا، ثم بعدًا وانتقامًا، وتذكرت خطابه بعد أن خرج من المعتقل ليذهب مباشرة إلى ضريح سعد الذى كان قد رحل عن عالمنا والعقاد سجينًا، ومازلت أتذكر كلمة الكاتب الراحل «محمد حسنين هيكل» عندما كان يلتقط من تاريخ مصر الحديث لمحات ذكية أنه ذكر لى أن العقاد قال على قبر سعد باشا فى الاحتفال بذكرى الأربعين لرحيله: كيف تمضى بنا بعد ذلك السنون؟ فرد عليه البعض فى تلقائية: كما مضت الأربعون!، وقد عانى معاصرو العقاد كثيرًا من لسانه وقلمه ودخل فى معارك كثيرة مع أدباء عصره ومفكريه، أمثال «الرافعى» و«المازنى» و«زكى مبارك» وغيرهم، إلا أن موقفه من «طه حسين» و«توفيق الحكيم» اتسم بالتوازن والحفاظ على شعرة معاوية، وقد لقبه أدباء عصره وشعراؤه بلقب «الجبار» لأنه كان شديدًا فى عدائه لاذعًا فى نقده وكأنما أصابته لفحات دفء أسوان بشعور عكسى تجاه رفاق عصره، ولقد تطاولت فى حوارى الخيالى الذى كتبته يوم رحيل العقاد عن استجواب السماء له فى الطريقة التى استخدم بها موهبته، خصوصًا فى سلسلة «العبقريات» التى تبدو أروع ما كتب، ولقد مضت الأيام ومرت الأعوام وكنت دبلوماسيًا مصريًا فى العاصمة الهندية مع بداية ثمانينيات القرن الماضى أتلهف على أعداد «مجلة أكتوبر» التى كان ينشر فيها رئيس تحريرها الأديب الصحفى الراحل «أنيس منصور» سلسلة طويلة نشرها فى كتاب بعد ذلك بعنوان «فى صالون العقاد كانت لنا أيام»، وهى فى ظنى من أفضل ما كتب أنيس منصور، لأنها كانت قراءة واعية فى التاريخ الاجتماعى لمصر فى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى، أعود إلى العقاد الذى رحل عن عالمنا تاركًا ثروة فكرية هائلة، فأستعيد مع القارئ مشهد استلامه لجائزة الدولة من الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر»، فقد ظهر العقاد منتصب القامة شامخًا وكأنما هو الذى يسلم الجائزة وليس من يتسلمها.. إنها حوارات من تاريخى الشخصى تظهر التجليات التى تصيب البشر فى لحظات الأخبار الصادمة، وقد كان يوم رحيل العقاد أحدها!.
المصري اليوم.