السؤال الذي أقلق الشارع وأتعب المشرع وأعاق عمل الجهات الرقابية كان وما يزال يدور حول “من أين لك هذا؟”.
البعض منا يتجنب طرح السؤال علنا مسايرة للمتنفذين والبعض يلفق الإجابات مستعينا بالدين والتراث. فيما يروى عن القائد الإنجليزي للجيش العربي “جلوب باشا” انه كان يصف الشيوخ بأنهم كسابون وهابون في إشارة الى انهم يضعون ايديهم على الكثير من الثروات ليطعموا الجياع ويفكوا الكرب ويجبروا الخواطر.
اليوم بقي الكسابون وغاب الوهابون فلم تعد ثروات الاثرياء في محيطهم الجغرافي، فهم يجمعون ثرواتهم هنا وينفقونها هناك ينتشرون على مساحة العالم ويودعونها في مصارف العالم الآمنة يتناولون إفطارهم في لندن ويستعدون لتلبية دعوات العشاء على متن القوارب او في مطاعم لوس انجلوس وطوكيو وباريس.
في بعض جلسات الاثرياء يستغرق تبادل الملاحظات حول السيجار وانواع النبيذ ومقارنة خدمات الفنادق والمنتجعات الاوروبية اكثر مما تستغرق مناقشة القضايا العامة بمرات. في بلادنا اكرمنا الله بنخبة سياسية واقتصادية تعرف اشهر مطاعم وفنادق ومنتجعات العالم ولا تتمكن من تسمية خمس قرى في الجنوب او تدري اذا ما كانت الموجب منطقة او اسم لأحد اطباقنا الشعبية.
في ثقافتنا الكثير من الاحاديث والقصص والروايات التي تتحدث عن اهل الخير وكرمهم وعن الرزق والطبقات والقدر والمقسوم وتحث على الطاعة والقبول والقناعة وتنهى عن الحسد والطمع والتجاوز على ما هو للغير.
إحدى أجمل الإجابات الدرامية على السؤال المتعلق بالثراء والتفاوت الطبقي نجدها في فيلم البداية الذي انتجته السينما المصرية العام 1986. في العمل الدرامي الرائع تعاون الكاتب لينين الرملي على تأليف وإخراج قصة تحاكي نشأة المجتمعات البشرية وظهور الدكتاتوريات واستغلال البشر لبعضهم.
قصة الفيلم تبدأ بتعرض طائرة ركاب الى عاصفة تؤدي الى سقوطها ونجاة عدد من الركاب وافراد الطاقم قبل انفجارها. ويتطور البناء الدرامي للقصة مع بداية بحث الناجين عن مظاهر للحياة في المنطقة الصحراوية الموحشة وعثورهم على واحة تصلح للعيش والاستقرار.
في الفيلم الذي تتبدى فيه الاوجه البشعة للكائنات البشرية تمكن رجل القانون المتمرس جميل راتب “نبيه” من تطوير فكرة النشوء للواحة، ويقدم لرفاقه نظرية حول علاقاتهم بها وببعضهم حيث يقنع الجميع بأنها منحة له من الرب الذي فوض له الحق في استخدامها وادارتها والانتفاع بكل ما تنتجه الارض من ماء وثمار وطالب الجميع بالعمل من اجل ان يكسبوا العيش واثبات الطاعة والولاء.
وسط قبول البعض وتردد الآخرين يعلن الحاكم الاسم الجديد للواحة “نبيهاليا” ويقيم قصره بجانب نبع الماء الوحيد والمطل على نخيل الواحة بعد ان يقيم علاقة رومانسية مع عالمة الكيمياء المتعجرفة سميحة طاهر “نجاة علي” فيشكلان معا ثنائيا بارعا ويحكمان القبضة على الواحة وكل ما فيها غير آبه للمعارضة التي يقودها رسام الكاريكاتير المثقف عادل “احمد زكي”.
في وقائع الفيلم الذي يعتبر مختبرا مصغرا لما جرى لشعوب الارض يستغل نبيه القدرات البدنية العالية للملاكم صبري عبدالمنعم فيسند له الوظائف الامنية وينعم عليه بالالقاب ليصبح الذراع العسكرية للدولة الناشئة وعمود من اعمدة نظامها الى جانب الفلاح سليم سالم الذي جسد دوره الفنان حمدي احمد.
صور الجدل الدائر هذه الايام حول الفاقة والفقر والتخمة التي يعيشها البعض يجسدها فيلم البداية في صور ومشاهد يصعب نسيانها. لكن الاسئلة المتعلقة باستمرار غنى وتخمة من لم ينشطوا يوما خارج دوائر العمل العام تبقى احد اهم مصادر الغضب والعتب والمظلومية. فالفقراء يسألون ومعهم كل الحق عن اسباب تضخم ملكيات وثروات من امضوا حياتهم في الوظيفة العامة يتلقون دخولا محدودة كغيرهم.
في كل ازمة يطل عليهم متخم ليحدثهم عن فضائل الجوع والعمل والشهادة وهم يرون كيف يمكن ان يتصرف احدهم اذا ما خسر مقعده النيابي او العطاء الذي توقع ان يرسو على إحدى شركاته او اذا ما خطر ببال احدهم ان ينزع عنه الغطاء ويجرده من بعض الامتيازات التي اصبحت إرثا لا غنى عنه.
الاجابة على السؤال التاريخي الملح: من أين لك هذا؟ هي البداية للنهضة وبغير ذلك يبقى الحديث عن النهضة تمرينا في الجدل العقيم الذي لا يفضي الى نتيجة او يحل ازمة.
الغد