تعتبر مصداقية الحكومات والدول المعيار الرئيسي الذي يحدد مدى تجاوب وتفاعل مواطنيها مع الطروحات والسياسات الحكومية ، وتعتبر السياسات الحكومية المتعثرة سبباً رئيسياً في تهاوي مستوى الثقة والمصداقية والذي يؤدي بدوره إلى عزوف أبناء المجتمع عن المشاركة السياسية أو التفاعل الإيجابي مع طروحات الإصلاح والتي لا يمكن أن تكتمل إلا بمشاركة سياسية واسعة.
لا شك أننا اليوم أحوج ما نكون لاتخاذ كثير من التدابير و القرارات لاستعادة "المصداقية الضائعة" و تطبيقها على أرض الواقع، وأول هذه التدابير هو تجاوز عقدة التصريحات والنفي المستمر والتكذيب والتي تجعل من عملية الإصلاح مهمة مستحيلة من جهة و تباعد بين المواطن
وأي مشروع من المشاريع المطروحة أو التي ستطرح من جهة اخرى.
ومن مشاهد الحزن المرتبطة بغياب المصداقية اليوم هو أن تكون المرجعيات الإعلامية للشؤون الداخلية الأردنية هي مؤسسات إعلامية غير أردنية. فحتى تتطلع على ما يحدث في جبل التاج في عمان، على سبيل المثال لا الحصر، لا تجد غير محطة الجزيرة و بعض المحطات العربية وكأن صمت الإعلام الأردني ينفي وقوع الحدث و ينهيه. وهذا لا يعني أبداً أن الكفاءات الأردنية غير قادرة على تشكيل مرجعية إعلامية حقيقية و إنما الخلل الحقيقي يكمن في مؤسساسات الدولة الإعلامية و عقلية القائمين عليها و الأسلوب العقيم الذي لازال يُتبع في التعامل مع نقل
الخبر والذي يستخف بعقول المواطنين و السامعين.
فالكفاءات الإعلامية الأردنية استطاعت كما نشاهد كلنا اليوم أن تكون عموداً أساسياً ترتكز عليه معظم نجاحات المؤسسات الإعلامية الحديثة و هذا لا يشكل أي نوع من أنواع المفاجأة، ذلك أن كل ما كان يحتاج إليه الشباب الأردني هو بعض من التقدير و مهنية في العمل و سقف حرية مرتفع يتخلى عن الثوب الإعلامي العثماني البالي والذي لا يمكن له إقناع أي إنسان، لا بل إنه يُؤطر للنتائج العكسية وهي الصدود والعزوف عن المرجعيات المحلية.
من هنا، لا بد أن ندرك أن تزايد عدد الشعارات و البرامج و الخطط التي تبقى حبراً على ورق أو تفتقر إلى المنهج العلمي التطبيقي على أرض الواقع تزيد من صعوبة عملية بناء الثقة و المصداقية و ذلك بسبب فقدان الشعور بجدوى هذه البرامج على الصعيد العملي. فكلما قلت مصداقية الدولة زادت عزلتها عن مواطنيها و بذلك تخلق في داخلهم الحاجة للبحث عن مظلة جديدة يشعروا تحتها بالأمان النفسي.
إن عملية بناء المصداقية تحتم علينا اليوم الخروج عن الممارسات البالية والتي هي في أغلب الأحيان ممارسات فردية، كسياسة تكميم الأفواه واستخدام العنف و التجريم و إيجاد المبررات غير المنطقية وتجميل الأخطاء أو عدم الاعتراف بوجودها أصلاً في بعض الأحيان. و لا يمكن أن تبنى المصداقية دون أن يعاقب المذنب و يُدان المخطئ أمام الجميع. و لعل قول الصحفي الأمريكي بيرت هيوم في هذا هو الأبلغ، حيث قال: " في النهاية، أنت تصنع سمعتك و نجاحك على أساس واحد، هو المصداقية."
إن أول خطوة حقيقية على طريق الإصلاح هو الاعتراف بمشاكلنا ووجودها، فالخلل الحقيقي لا يكمن بوجود المشكلة بل بعدم اعترافنا بها، و إلا ساهمنا بتوسعة الهوّة بين المشروع النظري و التطبيق العملي و بالتالي تكون النتائج السلبية هي المسيطرة. فالنظريات أثبتت أنه كلما اتسعت فجوة المصداقية لا تجد ما يملؤها سوى التصرفات غير الحكيمة، و لنا بما تشهده الساحة الاجتماعية عبرة.
إن الممارسات غير المسؤولة لتبادل المناصب و الطرق التي يتم من خلالها اختيار الشخوص لشغل المواقع و حتى طريقة التعديل و التشكيل الوزاري و تشكيل مجالس أمناء الجامعات مؤخراً تظهر بصورة واضحة مدى تغييب الكفاءة والاختصاص، وتؤكد أن العمل و الكفاءة ليسا جزءاً من الاختيار بل الشخص بحد ذاته هو المعيار و المقياس. و حتى ذريعة التمثيل الجغرافي و سوء استخدامها لا تمثل إلا تعزيزاً للمحسوبية و الشللية و الواسطة و لا تغدو أن تكون محاولات لإضفاء الشرعية على هذه الممارسات. و تكمن الخطورة الحقيقية في كل هذه الممارسات في انسلاخ الشارع عن الدولة و ذلك لأن هذه الممارسات المتناقضة مع كل الشعارات المطروحة لا تمثل فقط قتل الأمل بإمكانية التغيير بل تعزز في النفوس فكرة استحالة التغيير و حتى عدم جدوى المحاولة لاحقاً.
إن حسّ المسؤولية هو المفتاح الرئيسي لعملية بناء الثقة و المصداقية، و هذا الحس الواعي لا يتم بناؤه إلا بتقدير الكفاءة و التي بدورها تؤدي إلى بناء القيادات السياسية الفعالة و على العكس منه تكون الاعتباطية السياسية هي العنصر الهدام و القاتل لهذه الكفاءة و إن الإبقاء على كثير من المسؤولين والذين لم يتقنوا إلى الآن سوى التأزيم و خلق المشاكل بعد أن أثبتوا أنهم لا يتقنون حتى فن الكلام و هو من أبجديات العمل السياسي لهو الخطر الحقيقي الذي تعاني منه الدولة اليوم. فكلما زاد الشعور بالمسؤولية تجاه الأعمال المنوي القيام بها كلما زادت نسبة المصداقية. و لنتذكر هنا قول الفيلسوف الألماني نيتشه :" المصداقية و الوعي الإنساني و كل مظاهر الحقيقة تنبع من الأحاسيس."
amersabaileh@yahoo.com