كاكي .. جيشي .. فوتيكي .. إمبرقع صاعقة ليس عمى الألوان وإنما هوس الألوان، فلا أدري لماذا يطاردني شغف ألوان العسكرية في تفاصيل الأشياء، فعندما اختار لوناً ما أختمه بـ كاكي ، جيشي ، أو فوتيكي أو إمبرقع صاعقة ..
حتى محاولاتي اليائسة في التمدن تثنيها تلك التفاصيل العسكرية، لتتسرب مني عنوة، فعندما يكون عليَّ أن أثني على ذوق إحداهن أقول واوو شو بيعئد بسطاركي يا خيتكي ، أو ديري بالك قَايشك راح ينفك !
حالتي المزمنة تمتد منذ طفولتنا الضاربة في القفر الجميل، التي لعبنا فيها بـ جرابات الجيش الكاكي ، فسماكتها تمكنك من ثنيها وعمل دمى بعيون وأنف وفم، ومن باب التجميل كنا نضيف جديلة من الصوف، وكنا نتسابق لعمل أكبر عددٍ من الدمى منها.
أما في حياتي فلي حظ وافر من جرابات الجيش الكاكي، فجدي كان محارباً قديماً في الجيش العربي؛ واستشهد في معركة باب الواد على مشارف القدس عام 1948، وما زلت أحتفظ بآخر رسالة منه إلى جدتي سلمى ، حيث طرّز كلمات رسالته بشقاء حنينه للوطن، وتغزل باللحظة التي ستطأ قدماه تراب الجنوب، وأقسم ذات سطر في رسالته اليتيمة أنه عندما يعود والجيش منتصرٌ سيُقبِّل ثرى الوطن، وطلبَ من قارئ الرسالة - حيث أن سلمى لم تكن تقرأ - أن يعيد قراءتها لها أكثر من مرة، لم يعد جدي من وقتها، بل خبر استشهاده..
لكن جرابات الجيش الكاكي تابعت مسيرتها الخضراء إليّ، حيث أن أبي كان ضابطاً في الجيش العربي الأردني، شهد لحظات ميلاد الكرامة، وتعمد بدمائه التي نزفها أيمن كتفه من شظية غادرة، دمه هناك أزهر دحنوناً وشقائق..
أاكتفت جرابات الجيش الكاكي بي لهذا الحد؟!
لا، بل سارت إليَّ مجدداً، وهذه المرة عرجت في طريقها نحوي على أريتريا ، سيراليون ، هاييتي وآخرها كان العراق، فرفيق دربي يمتهن المِبْضَع؛ وأخبرني في لحظات الوداع أن هناك جرحاً نازفاً في أريتريا وآخر في العراق وعلى مبضعه الحاد أن يستأصل مَكْمن الألم.
ابني سيف يعرف الآن كيف تثنى جرابات الجيش جيداً، ويهوى فك ووصل رباط البُسطار ، وغداً سيدرك كيف أن المجد يساق لنا طائعاً من كل أنحاء العالم، من غفوة كاهلٍ بأمان في أرتيريا، ومن التئام جرح جسدٍ أثخنته نار الاقتتال في ليبيريا، ومن صرخة وليد تقطع الخط الفاصل بين مخاض الشعوب الأبدي ومخاض الولادة في المستشفى الأردني في الفلوجة بسلام، ومجد آخر من جسرٍ موصول في جنوب لبنان..
للخيوط الخضراء الجيشي سلام ..
hindcolors@yahoo.com