قليلا ما يطرح سؤال التغير الثقافي وكيف يؤثر في القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الأردن، وكيف أن السمات الثقافية التي تخضع لعمليات تغير غير خاضع للمتابعة او التخطيط باتت اليوم عاملا اساسيا في تغيير نظرتنا للقوة الاجتماعية والسياسية ولحالة الارباك في فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع، كما الحال في اهمال حقيقة ان التغير الثقافي هو المفتاح المهمل في تفسير أزمات التنمية والمشاركة والتحديث.
علينا أن نعترف بأن ثمة تغيرا ثقافيا هائلا وليس تغييرا ثقافيا شهده المجتمع الأردني، وثمة فرق بين التغير والتغيير، بمعنى ان عمليات الهدم والبناء لم تكن موجهة او مدركة ولا مخططا لها في سياق مشروع تحديث وطني له ابعاده الاقتصادية والسياسية، فما حدث يبدو في اتساع الهوة بين فئات اجتماعية محدودة او طبقة اجتماعية رقيقة استفادت من عمليات التحديث الاقتصادي واخرى دفعت ثمن هذه العمليات وشهدت ما يشبه الردة الاجتماعية – الثقافية التي باتت تبرز نتائجها بالتفاعل مع عوامل اقليمية وعالمية وانتجت ظواهر مثل التطرف والمغالاة في ردود الافعال والرفض وحالة السلبية العامة والانفعالات المجتمعية الحادة، في الوقت الذي ساهمت الردود الرسمية على هذه الحالة في اعادة انتاج اشكال جديدة من تعبيرات الريعية السياسية والاقتصادية.
هناك أزمة مجتمعية ذات حمولة ثقافية لا يلتفت إليها كثيرا حينما نناقش قضايا الإصلاح والنهضة في بلادنا تتلخص في طول المرحلة الانتقالية والتي عادة تنتج ما يسمى “ثقافة العبور”، ويقصد بها جميع القيم والمعايير والرموز والإشارات التي تصاحب حركة المجتمع في انتقاله من مرحلة الى أخرى ؛ أي الثقافة التي تسود أثناء مرحلة التحول، أثناء العبور ثمة ثقافة للطريق إشارات وزحام وأصوات متعددة وتنبيهات وتناقضات ثمة شك وريبة وتراجع في الثقة العامة، كلها تشكل أطرا ثقافية دُرست من قبل الانثربولوجيين ولم يلتفت إليها الآخرون، و بقينا أسرى ثقافة الاستعداد الى الإقلاع المملوءة بالحشد والتعبئة وعدم الحسم والتجريب، وبينما تنشغل ثقافة الاستعداد للإقلاع على النخب والخطاب النظري وادارة الجموع والدفاع والحماية، ينشغل منظور الهدم والبناء في مرحلة ثقافة العبور على الناس وعلى القواعد الاجتماعية العريضة وعلى تمكينها من تقديم البدائل.
منذ بدأ التنظير لمشاريع الإصلاح الخلافية قبل سنوات كان أمام صناع السياسات اخذ البعد الثقافي المجتمعي بعين الاعتبار اي التأسيس لعقلانية جديدة تمكنها من إدارة الهدم والبناء معاً؛ وهذا يحتم الاشتغال على تفكيك بنية ذهنية وسلوكية تقليدية ممتدة من السلطة إلى الشارع ويعني الاشتباك مع الثقافة الشعبية على قدم المساواة مع ثقافة السلطة والمؤسسات، وللأسف ما تزال المراجعات الثقافية غير مرئية وعاجزة عن الدخول الى فضاء القواعد الشعبية العريضة أي الدخول أو الاقتراب من ثقافة العبور.
ان الديمقراطية وكذا النزاهة والعدالة تتوقف على وعي الناس بضرورتها ؛ وهذا يتوقف على مدى تأصيل الديمقراطية وقيمها في الثقافة الشعبية وهي احد المكونات الأساسية لتجاوز ثقافة العبور، والإنسان العربي لم يحقق بعد على صعيد الوعي القطيعـة الضرورية مع فكر ما قبل الحداثة السياسية، حيث إن الديمقراطية ما تزال تحتاج إلى تأسيس في الوعي الشعبي المعاصر أي تحويلها إلى قناعة في وعي الأفراد وفي حياتهم اليومية.
في هذه الأيام يمكن ملاحظة أنماط التعبيرات الثقافية والسياسية في المجتمعات المحلية الأردنية في أحياء العاصمة وصالوناتها السياسية وفي المجتمعات المحلية في المدن والقرى في المحافظات؛ ما يكشف حجم الحاجة الى ادارة الهدم والبناء الثقافي في السياسات العامة. ان اخطر ما يمكن ان يربك المجتمعات ان تشتبك السياسة اليومية ومصالح النخب في ادارة الهدم والبناء الثقافي مع افتقاد مشروع ثقافي مجتمعي وطني شامل..
الغد