الشراكات مع القطاع الخاص فرصة تنموية بمتطلبات إدارية
د. سامر إبراهيم المفلح
28-09-2019 10:05 PM
خلال الثلاثة عقود الماضية تطوّر مفهوم الشراكات بين القطاع العام والخاص (Public-Private Partnerships -PPPs) بشكل كبير ومتسارع، وفكرة الشراكة ما بين القطاع العام والخاص تأخذ أشكالًا متعددة، والتي في جوهرها تتمحور حول قيام مستثمر أو أكثر من القطاع الخاص بتنفيذ مشروع حكومي ابتداء من التصميم للمشروع، وتمويله، وتنفيذه، وإدارته بعد البناء.
وتعتبر مشاريع بناء البنى التحتية وإدارتها من أهم أشكال الشراكات بين القطاع العام والخاص في الدول المتقدمة، ومن أمثلتها مشاريع قطاعات النقل مثل الطرق السريعة، والمطارات، والسكك الحديدية، والجسور، والأنفاق، وأيضًا مشاريع المياه والصرف الصحي، ومن الأشكال الأخرى لهذه الشراكات مشاريع بناء وإدارة المرافق العامة ومراكز الخدمة كالمباني المدرسية، والسجون، ومرافق الترفيه، والسياحة، والرياضة وغيرها.
وفي هذه الشراكات فإن الحكومة تملك الأصول والمشاريع التي يتم تنفيذها بينما تملك الشركات الخاصة القدرة على جلب أفضل التقنيات والتكنولوجيا، والحصول على تمويل المشروع، وتنفيذه، وإدارته بشكل عصري، فيتولى القطاع الخاص التشييد والإدارة إذا تطلّب المشروع ذلك، بينما تقوم الحكومة بالتعاقد معه لسداد استثماره مع تأمين هامش ربح له على فترة قد تمتد إلى 30 عامًا أو ما يزيد في بعض المشاريع، وفي بعض الأحيان قد يأتي التمويل جزئيًا من القطاع الخاص والذي قد يتطلّب دفعات من القطاع العام والمستخدمين خلال فترة المشروع أيضًا.
وهناك نموذج قريب من الشراكات ما بين القطاع العام والخاص والبعض يعتبره أحد أساليب هذه الشراكة وهو "نظام البناء والتشغيل ونقل الملكية أو التشييد والتشغيل ونقل الملكية" (Build Operate Transfer - BOT)، وفي مضمونه يتولّى مستثمر من القطاع الخاص تشييد مشروع البنية التحتية أو مرافق تقديم الخدمة العامة من موارده الخاصة بعد الحصول على امتيازات حكومية أحيانًا، وبعدها يقوم هذا المستثمر الشريك للحكومة بتشغيل المشروع لسداد تكلفة استثماره وتحقيق ربح وتقديم عوائد للحكومة حسب الاتفاق، وتنتهي الشراكة بعد عدد متفق عليه من السنوات يقوم على إثرها المستثمر بنقل ملكية المشروع إلى الدولة لتستفيد بأن المشروع قد تم تنفيذه مع تحقيق بعض العوائد دون تحمّل الخزينة أية كلف.
ولهذه النماذج المختلفة من الشراكات ما بين القطاع العام والخاص فوائد جمّة فهي تؤسس لتضافر الجهود وتوزيع الأدوار بين القطاعين العام والخاص، إذ يقوم القطاع الخاص بتوفير التكنولوجيا والابتكار، وتأمين التمويل، والتشييد والبناء الصحيح، والخبرة في التشغيل وفق الممارسات الفضلى، بينما يتولى القطاع العام تقديم الحوافز لإكمال العمل، ويتفرّغ إلى مراقبة الأداء وفق معايير متفق عليها في حالة التشغيل من قبل المستثمر، وأيضًا فهذه الشراكات تقلّل من الضغوطات على المالية العامة للدولة إذ يتولى القطاع الخاص تأمين المخصصات المالية كاملة في مشاريع البناء والتشغيل ونقل الملكية.
وفي الأردن هناك تجارب إيجابية تُروى لمشاريع نُفّذت بنجاح، منها مثلًا مشروع إعادة تأهيل وتوسعة وتشغيل مطار الملكة علياء الدولي، والذي قُدّرت تكلفة تنفيذه الإجمالية بحوالي (850) مليون دولار أمريكي حسب الموقع الإلكتروني لوزارة النقل، ولم تتحمّل الحكومة أية تكاليف لتنفيذه إذ تم المشوع بأسلوب البناء والتشغيل وإعادة الملكية (BOT)، ولمدة 25 عامًا من تاريخ دخول الاتفاقية حيز التنفيذ بين الحكومة والشريك، وفي العام 2014 ولغاية مأسسة الشراكات ما بين القطاع العام والخاص أُصدر قانون الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص، وعلى إثره تم إيجاد مجلس الشراكة بين القطاعين العام والخاص ووحدة الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص في وزارة المالية.
وبالرغم من ارتفاع مخصصات النفقات الرأسمالية من مشاريع الموازنات العامة، إلا أن نسبها من مجموع الإنفاق العام أخذ بالانخفاض، ومؤخرًا قرّرت الحكومة إيقاف جميع المشاريع الرأسمالية التي لم يتمّ البدء في تنفيذها (ما أمكن ذلك) باستثناء المشاريع المرتبطة بالمنح والقروض والمشاريع ذات الأولوية، ومع بلوغ الدين العام الداخلي ما مقداره (15.7) مليار دينار في نهاية تموز 2019 والذي يعني مزاحمة القطاع العام على مصادر التمويل القطاع الخاص، فإن الشراكات ما بين القطاع العام والخاص قد تكون السبيل الأمثل لتمويل المشاريع الرأسمالية التنموية في ظل هذه الضغوطات على المالية العامة.
وهناك قطاعات اقتصادية يمكن التوسع في تهيئتها لاستقطاب مشاريع الشراكات ما بين القطاعين العام والخاص مثل قطاع الطاقة، والنقل، والسياحة، وغيرها، وفي حال تحديد القطاعات ذات الأولوية كالسياحة مثلًا والذي يمكن استقطاب استثمارات وشراكات كبيرة فيه خصوصًا فيما يرتبط بإدارة المواقع الأثرية والترفيه، يجب أن يتزامن هذا الجهد بإحداث تغييرات في التشريعات المختلفة مثل قانون السياحة وقانون الآثار وغيرها من التشريعات لإزالة المحددات والإجراءات المقيدة لهذه الشراكات.
وبعد تهيئة القطاعات المستهدفة للشراكات من الناحية التشريعية والإجرائية، هناك حاجة إلى الترويج المستهدف لكبريات الشركات العالمية العاملة في هذه القطاعات، والتي لها خبرات في تنفيذ مشاريع شراكة مع القطاع العام بالتحديد، والذي سيتطلّب جهدًا حكوميًا من الجهات المعنية بترويج الاستثمار كهيئة الاستثمار والتي تنشط في هذا الإطار.
أما من ناحية التمويل فبالرغم من أن أحد الأهداف الرئيسة للشراكات مع القطاع الخاص هو توفير التمويل اللازم لتنفيذ المشاريع الكبرى، إلا أن وجود شركاء محليين ولو باستثمار متواضع سيجلب التطمينات للشركاء الأجانب، وهناك حاجة لمأسسة تخصيص جزء من النفقات الرأسمالية في الموازنة العامة للشراكات مع القطاع الخاص، كما أن للجهات الاستثمارية مثل صناديق التقاعد، والصناديق الأخرى، والبنوك الاستثمارية المحلية، أداء دور فاعل في هذا الخصوص ليكونوا شركاء محليين للمستثمرين الأجانب الراغبين بتنفيذ مشاريع بالشراكة مع القطاع العام.
بالنتيجة فإن مشاريع الشراكة ما بين القطاع العام والخاص تستجيب إلى التحديات المالية، وتشكّل فرصة حقيقية للتوسع في تنفيذ المشاريع الاستراتيجية التي ستنعكس إيجابًا على تحقيق النمو الاقتصادي والتشغيل، وبالرغم من سير الحكومة بالاتجاه الصحيح نحو مأسسة هذه الشراكات، إلا أن الفترات القادمة تستوجب تكثيف وتكامل الجهود خصوصًا فيما يتعلّق بتحديد الأولويات القطاعية والاستثمارية، ووضع الإصلاحات التشريعية والإجرائية، والترويج المستهدف للقطاعات والمشاريع ذات الأولوية، مع توفير ولو جزء يسير من المخصصات المالية الحكومية واستعداد بعض الجهات الاستثمارية المحلية لتكون طرفًا في هذه الشراكات المستقبلية.