للتميز عنوان .. "النوع وليس الكم"
أ. د. صلحي الشحاتيت
24-09-2019 01:31 AM
الطريق إلى التميز نادراً ما يكون مزدحماً، فالجميع يعمل ولكن ليس الجميع يتميَّز، وهناك من يسعى للتقدّم للأمام أكثر والتحسين من إمكانياته ووضعه، وهناك من يرقد على أولِ درجةٍ من درجاتِ التطورِ ويستريح ويرفض التقدّمَ، فالحياة الغنية بالتفكير والإنتاج، هو المقياس الصحيح للتميز.
وأحد أهم أدوات التميز هو تقدير الأشياء بالنوع لا بالكم، فهذه منزلة لا يصل إليها العقل إلاّ بعد نضوجه، فكثيراً ما نسمع بالكم والنوع، ولكن القليل منا من يفهم ويدرك معنى هذه الكلمتين، ما هو الكم؟ وما هو النوع؟
هناك من يهتم بالكم، ومنهم من يهتم بالنوع، والسواد الأعظم من الناس من ينظر إلى صاحب الكم، والفئة القليلة من تهتم بالنوع، فالكم هو الكثرة، والنوع هو الجودة، وفي وقتنا الحالي برزت ثقافة الاهتمام بالكم، لأننا لم نبحث عن الكيف أو همشنا مفهوم النوعية والجودة في الأداء و تنازلنا عن مستوى الأداء أو لم يعد لدينا هناك مستوى للأداء. فأصبحت ثقافة الاهتمام بالكم تشمل أغلب مناحي الحياة العلمية والعملية والاقتصادية، وحتى فيما يتعلق بعلاقتنا الاجتماعية.
لو أخذنا مثال العملية التعليمة، سواء التعليم العام أو التعليم العالي، نلاحظ أن هناك صراع بين الكم والنوع، في بناء المناهج وتدريسها، حيث يرى البعض أن الزخم المعرفي، يفرض الاهتمام بالكم، عند التخطيط لوضع وتطوير المناهج الدراسية الحديثة، وهذا له آثر وتداعيات سلبية كثيرة، حيث أن الحشو في التعليم، يقوم بالأساس على وجهة نظر مفادها أن الإنسان بإمكانه أن يعرف كل شيء، ويفهم أي شيء، وهذا يحد من إثارة الأفكار الإبداعية وتنمية العقل على الابتكار، كذلك التعليم العالي بحاجة أن يتوجه إلى التركيز على الاختيار النوعي وليس الكمي، سواء في نوعية الطلاب واعضاء الهيئة التدريسة، وحتى فيما يتعلق بطلاب الدراسات العليا في أي مجال من مجالات العلوم، رياضية كانت أم انسانية، أم علمية, تحتاج إلى البحث والمقارنة والتحليل وأعمال الفكر، وبالنتيجة الخروج بجديد، ليس بالضرورة أن يكون إبداعياً ولكن من اللازم أن يكون غير مسبوق، وليس بالضرورة أيضاً أن يكون هناك حشو وزخم كبير بالمعلومات والتحليل عند اعداد رسائل الماجستير أو الدكتورة، فيجب التركيز على القيمة العلمية أكثر .
فعلى سبيل المثال، أصغر أطروحة دكتوراه في التاريخ تتكون من 26 صفحة و مرجعين، وأحد المرجعين هو ورقة بحثية للطالب نفسه. تعود لـِ "جون فوربس ناش"، وهو رياضياتي وعالم اقتصاد أمريكي، حيث درس في البداية الهندسة ثم الكيمياء قبل أن يحول دراسته إلى الرياضيات. حصل على كل من شهادة البكالوريوس والماجستير عام1948، ثم التحق في جامعة برينستون لدراسة الدكتوراة، وكان عنوان الأطروحة "الألعاب غير التعاونية Non-Cooperative Games"" كتب أطروحة الدكتوراه هذه عام 1950. ثم عمل كمدرس في كلية الرياضيات في MIT خلال الفترة من 1955 حتى استقالته في ربيع 1959، اهتم بنظرية الألعاب والهندسة التفاضلية. كان مصاباً بمرض الفصام، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يكون عبقرياً متميزاً، حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، بالإضافة إلى العديد من الجوائز والتكريمات، ونظرا لتميزه العلمي الكبير نشرت سيلفيا نصار سيرة لناش بعنوان عقل جميل، في عام 1998. وصدر فيلم يحمل الاسم نفسه “Beautiful Mind” في عام 2001.
النظرة ليست سوداوية تماماً، فلا شك أن هناك جهود كبيرة تبذل في سبيل تحسين جودة التعليم بشكل عام، ولكن نحن بحاجة إلى مزيد من الهدوء والتخصص والتفكير والتخطيط السليم والحرص على النوع أكثر من الكم.
الأستاذ الدكتور صلحي الشحاتيت
قسم الكيمياء - جامعة مؤتة