إرضاع الكبير نموذج صارخ لفوضى الفتوى
حلمي الأسمر
23-05-2007 03:00 AM
تنص المادة 12 - من قانون الافتاء في الأردن على ما يلي :
أ - لا يجوز لاي شخص او جهة التصدي لاصدار الفتاوى الشرعية في القضايا العامة خلافا لاحكام هذا القانون.
ب - يحظر على أي شخص او جهة الطعن والتشكيك في الفتاوى الصادرة عن المجلس والمفتي العام بهدف الاساءة والتجريح.حين صدر هذا القانون العام الماضي ، ثار نقاش كبير حول هذه المادة ، وحين استعلمت من سماحة المفتي العام الدكتور نوح القضاه سمعت منه شرحا مستفيضا حول التفريق بين "القضايا العامة" التي منع القانون أي جهة للتصدي لها ، وبين القضايا اليومية الخاصة بما يمر به الناس في حياتهم ، من فقه عبادات ومعاملات ، كل ذلك تداعى إلى ذهني وأنا أرقب باستغراب النقاش الحاد الذي دار في الإعلام العربي وبعض المجالس العامة حول فتوى إرضاع الموظفة لزميلها في العمل ، خروجا من مسألة الخلوة الشرعية ، ومن حسن الطالع أن د. عزت عطية ، رئيس قسم الحديث وعلومه بكلية أصول الدين جامعة الأزهر ، صاحب الفتوى قدم اعتذارا عن فتواه التي قال فيها بـ"إرضاع المرأة زميلها في العمل" لمنع الخلوة الشرعية بينهما معتبرا أنها كانت لواقعة خاصة وأن الرضاعة بالصغر هي التي ثبت بها التحريم.
عطية قال في بيان بهذا الشأن ووزعته الجامعة أن ما أثير حول موضوع ارضاع الكبير كان نقلاً عن الأئمة ابن حزم وابن تيمية وابن القيم والشوكاني وأمين خطاب وما استخلصه من كلام ابن حجر. وقال أن الرأي عنده أن الرضاعة في الصغر هي التي ثبت بها التحريم كما قال الأئمة الأربعة ، وأن رضاعة الكبير كانت لواقعة خاصة ، وإن ما أفتي به كان "اجتهادا" وبناء على ما تدارسه على اخوانه من العلماء معتذرا عما بدر منه قبل ذلك ، ورجح عن هذا الرأي الذي يخالف الجمهور.
فتوى إرضاع زميل العمل ، كانت أثارت أزمة في أوساط علماء الدين والمجتمع والسياسيين ، خاصة لقيام جريدة الحزب الوطني في مصر بالترويج لها ، وهو ما أثار الامانة العامة للحزب. واضطر وزير الاعلام إلي سحب نسخ الجريدة من السوق. جامعة الأزهر وعلى خلفية الضجة الإعلامية التي حدثت بسبب هذه الفتوى قامت بتشكيل لجنة برئاسة الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس قسم الحديث الأسبق بالكلية وعضوية عدد من أساتذة الحديث بالجامعة: لمراجعة الدكتور عطية عن فتواه ، وبناء عليه كانت جامعة الأزهر تستعد لاتخاذ إجراء مع الدكتور عزت نتيجة فتواه المثيرة للجدل ، كما أن رئيس الجامعة قد صمم على أن يكون هناك اعتذار على تلك الفتوى وعلى وجه السرعة.. وبالفعل قام الدكتور عزت بكتابة الاعتذار ،
كان ما حدث حول هذه الفتوى مثالا حيا على "فوضى الفتوى السائدة في بلادنا ، خاصة في ضوء توفر أمهات الكتب الإسلامية على شبكة المعلومات العالمية "الانترنت" الأمر الذي شجع كثيرين ممن لا يملكون مؤهلات العلم الشرعي على التجرؤ على دنيا الفتوى ، ولعل أكثر تجليات هذه الفوضى تدميرا ما يفتي به "الفقهاء السريون" الذين قرأوا الفقه والعلم الشرعي في أقبية السجون ، ممن تلقفتهم تنظيمات دينية خلعت المجتمع وآمنت بأنه جاهلي يستحق هدر الدم ، وهو ما وفر غطاء شرعيا ملتبسا لعدد ضخم من العمليات التفجيرية التي استهدفت أناسا أبرياء على نحو ما حصل في عمان فيما عرف بتفجيرات الفنادق ، وهي جريمة هزت ضمير المجتمع الأردني ، وكانت أحد أسباب سن قانون لمعالجة فوضى الفتوى..
إن حصر إصدار الفتاوى الشرعية في القضايا العامة بالمفتي العام ومجلس الافتاء في الأردن ، ليست سابقة أردنية ، فقد سبق وأن أصدر مجمع البحوث الإسلامية قرارا يقضي بأن تكون دار الإفتاء هي المؤسسة الوحيدة التي يحق لها إصدار الفتاوى في مصر ، كما لا يحق لأحد أن يعلق على فتاواها إلا مجمع البحوث نفسه إذا لزم الأمر ، ولا يسمح بالإفتاء لأي جهة أو فرد بشكل مباشر. وقد رأى الكثيرون في هذا القرار محاولة للسيطرة على ما يمكن تسميته فوضى الفتاوى التي انتشرت ، خاصة على الفضائيات ، فيما رأى الآخرون مصادرة لحق أصيل من حقوق العلماء الأثبات ، فضلا عن الخوف من أن يكون مقدمة لقرارات أخرى أشد صرامة ، وهناك من تتعدى نظرته لهذا القرار تلك الآفاق ، حيث يرى فيه امتدادًا لمخطط يهدف إلى تأميم الفتاوى ، وجعلها في يد النظم الحاكمة لخدمة أغراض سياسية بالأساس ،
الدكتور عبد الصبور شاهين المفكر الإسلامي المعروف رفض هذا كلية إذا كان مقصودا به التمهيد لتقنين الفتوى وضرورة إعطاء من يفتي ترخيصا بها ، أو إصدار قانون للإفتاء ، معللا ذلك بأنه لا يمكن فرض نوع من الرقابة في إبداء آراء العلماء في القضايا المختلفة.
ويضيف: إذا كان الهدف من هذا القرار هو محاولة إيجاد نوع من الانضباط بعض الشيء ، خاصة أن الفضائيات فتحت المجال لمن لا علم لهم ، فإنها تكون الحالة الوحيدة التي يمكن أن يكون فيها هذا القرار مقبولا. غير أنه يشدد على ألا يكون القرار مانعًا من أن يقول العلماء آراءهم لمن يستفتيهم ، حتى وإن كانت فتاواهم الفردية تخالف أو تعقب على فتوى دار الإفتاء.
وثمة بين الرفض القاطع والقبول الكلي منطقة وسطى ، نقول أن لهذا القرار جانبين أحدهما إيجابي والآخر سلبي ، أما الإيجابي فيتمثل في ضرورة أن تكون جهة الفتوى في القضايا العامة موحدة ، خاصة أن المجتمعات الإسلامية تشكو اليوم من كثرة الفتاوى ، وتضاربها ، ويقول أصحاب هذا الرأي أن قضية الفتاوى التي حدثت بعد حرب الخليج هي أن القادة الدينيين في كل دولة كانوا يفتون بفتاوى مختلفة ، فأصبح الدين تبعا لأهواء الناس ، وكان من الواضح أن الفتوى كانت سياسية ، فبدأ الناس يشعرون بخطورة هذا التوجه.
أما الجانب السلبي لهذا القرار فيرى البعض أنه يفهم منه على أنه تغليف للفتوى بلون معين ، كما أنه لا يمكن أن يقال إن الفتوى تحصر على مشايخ الأزهر أو جهة بعينها ، في القضايا المعيشية اليومية المتجددة.
أما المخاوف التي تثار حول كون مثل هذا الاجراء خطوة لتأميم الفتوى أو تسييسها فيقال هنا أن ذلك غير محقق ، خاصة أن الفتاوى ما زالت تطلق في المسائل المعيشية بين الناس من العلماء ، ولا يمكن لأي قانون منعها ، لأن مساحات الحريات اتسعت ويستطيع الإنسان أن يعبر عن رأيه خاصة الرأي الديني ، ويقول أحد العلماء هنا "إن العالم لا يمكن أن يفتي بمسائل تخالف الشرع لأن الفتوى الخاطئة ستجد من يردها من مختلف العالم الإسلامي بصرف النظر عن المفتي ، وذلك دون الحاجة فيها إلى قرار" .. وثمة مسألة هنا غابت عن كثيرين ، وهي متعلقة بالجانب القانوني للمادة التي أوردتها في بداية هذا المقال ، وهي أن حصر الافتاء بدائرة الافتاء لم يرتب أي عقوبات على من خافها ، ما يعني أنها تكتسب صفة ارشادية أو توجيهية ما دام أن من يتصدى للفتوى من غير المخولين بالقانون لا يواجهون أي عقوبات ، وهو ما يؤكد أن الهدف هنا هو تنظيم "سوق الفتوى" أكثر منه تكميم أفواه العلماء ، وإن كان بعضهم بحاجة لمثل هذا التكميم ، خاصة حين يصدر فتوى يضطر للاعتذار عنها ، كتلك الفتوى المستهجنة الخاصة بإرضاع الموظفة لزميلها في العمل، ،
al-asmar@maktoob.com