اعتبار المحكمة الدستورية الاتفاقات والمعاهدات المنصوص عليها في المادة (33) من الدستور بأكملها من قبيل أعمال السيادة أمراً لا نتفق معها فيه
لقد أصدرت المحكمة الدستورية المحترمة قرارها رقم (2) لسنة 2019 بتاريخ 11 أيلول 2019 والمتعلق باتفاقية الغاز المبرمة بين شركة الكهرباء الوطنية المملوكة بالكامل للحكومة بتاريخ 26/9/2016 لبيع وشراء الغاز الطبيعي مع شركة نوبل انيرجي وهي شركة مسجلة في جزر الكايمن مملوكة من الشركات صاحبة استثمار حقل غاز (ليفايثن) .
وجاء طلب تفسير نص الفقرة الثانية من المادة (33) من الدستور بناء على قرار مجلس الوزراء المبين بكتاب رئيس الوزراء ذي الرقم (29372) المؤرخ في 18/7/2019 لبيان فيما إذا كانت هذه الاتفاقية تحتاج موافقة مجلس الأمة , علما ً بان الفقرة (1) من المادة (33) من الدستور قد وردت على النحو التالي : " الملك هو الذي يعلن الحرب ويعقد الصلح ويبرم المعاهدات والاتفاقات في حين نصت الفقرة (2) من المادة ذاتها على النحو التالي : " المعاهدات والاتفاقات التي يترتب عليها تحميل خزانة الدولة شيئا من النفقات أو مساس في حقوق الأردنيين العامة أو الخاصة لا تكون نافذة الا إذا وافق عليها مجلس الأمة ولا يجوز في اي حال أن تكون الشروط السرية في معاهدة أو اتفاق ما مناقضة للشروط العلنية " .
وانتهت المحكمة في قرارها إلى " أن الاتفاقيات التي تبرمها شركات مملوكة بالكامل للحكومة مع شركات أخرى لا تدخل في مفهوم الاتفاقيات المنصوص عليها في الفقرة (2) من المادة (33) من الدستور ولا يحتاج نفاذها لموافقة مجلس الأمة " ,
وتعليلا لقرارها هذا قضت بما يلي : " وصولاً لإجابة مجلس الوزراء على طلب التفسير , فان محكمتنا ترى أن الفقه والقضاء والاجتهاد الدستوري , مجمعةً على أن المعاهدات والاتفاقيات المنصوص عليها في المادة (33) من الدستور هي من أعمال السيادة التي أنيط إبرامها بالملك باعتباره راس الدولة وتُعقد بين الدول من خلال حكوماتها , وباعتبارها من أشخاص القانون الدولي العام وان الاتفاقيات التي تبرمها اي دولة مع اي شخص طبيعي أو معنوي لا يخضع لأحكام القانون الدولي العام ولا تُبرم من خلال رئيس الدولة ولا يتوقف نفاذ مفعولها على موافقة مجلس الأمة وتمارسها الدولة كجزء من شانها الإداري وتخضع لأحكام قوانينها الداخلية والأحكام والشروط الواردة فيها " .
ويلاحظ مما تقدم أن المحكمة المحترمة لم تفرق بين المعاهدات والاتفاقات المنصوص عليها في الفقرة الأولى والفقرة الثانية بخصوص أعمال السيادة .
ولتسليط الضوء على نظرية أعمال السيادة وكيف نشأت , فإننا نود أن نشير إلى ما يلي : وفي الوقت الذي تعتبر أعمال السيادة في فرنسا ذات أساس قضائي أرسى القضاء الفرنسي قواعدها ونظم أحكامها , الا أنها في مصر ذات أساس تشريعي يرجع إلى بداية التنظيم القضائي الحديث ( ).
فقد عرضت لها التشريعات المنظمة للمحاكم المختلطة ثم تشريعات المحاكم الأهلية كما كانت تسمى وقتئذ, فحظرت المادة (11) من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة معدلة سنة 1900 على هذه المحاكم النظر في أعمال السيادة , وتبعتها المادة (15) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية معدلة سنة 1937 , فحظرت على هذه المحاكم النظر في أعمال السيادة , ولقد استقرت تلك القاعدة في التشريعات المتعاقبة المنظمة للقضاء حتى انتهت إلى المادة (17) من قانون السلطة القضائية الصادرة بالقانون رقم (46) لسنة 1972 , ولما انشئ مجلس الدولة بمقتضى القانون (112) لسنة 1946 حظر في مادته السادسة على محكمة القضاء الإداري النظر في أعمال السيادة واستقر هذا الحكم في التشريعات التالية المعدلة لنظام مجلس الدولة حتى انتهى إلى المادة (11) من قانونه الحالي الصادر بالقانون رقم (47) لسنة 1972 .
أما في المملكة الأردنية الهاشمية – في حدود ما نعلم – فان أعمال السيادة ذات أساس قضائي جسدته محكمة العدل العليا في العديد من قراراتها التي نشير اليها في ادناه :
• قرار رقم 327/1934 خماسية تاريخ 30/10/1994 منشورات مركز عدالة .
• كما نشير أدناه إلى أرقام القرارات الصادرة عن محكمة العدل العليا بهذا الخصوص , اي من حيث رد الدعاوى شكلا وتقرير عدم الاختصاص لأنه هذه الدعاوى تعلق بحق السيادة .
• قرار رقم 327/1934 خماسية تاريخ 30/10/1994 منشورات مركز عدالة
• وكذلك القرارات 149/1993 هيئة خماسية تاريخ 29/6/1993
• وكذلك القرار رقم 130/1992 هيئة ثلاثية تاريخ 25/10/1992
• والقرار رقم 104/1992هيئة خماسية تاريخ 7/10/1992
• وكذلك القرار رقم 205/1991 هيئة خماسية تاريخ 30/10/1991
• وقرار رقم 178/1991 تاريخ 15/10/1991 .
• وقرار رقم 164/1990 تاريخ 24/1/1991 .
ولتوضيح أعمال السيادة وما يتصل بها , فان السلطة التنفيذية في الدولة تقوم بوظيفتين , تتمثل إحداهما بوصفها سلطة حكم , وما تقوم به في هذا السياق هي أعمال سيادة , في حين تتمثل ثانيهما بوصفها سلطة إدارة, وما تقوم به من أعمال في هذا السياق هي أعمال إدارية .
والفرق واضح ُ بين أعمال السيادة التي تَبرز فيها الصفة السياسية لما يحيطها من اعتبارات سياسية , فهي تصدر عن السلطة التنفيذية بوصفها سلطة حكم وبما لها من سلطة عليا لتحقيق مصلحة الجماعة السياسية كلها والسهر على احترام دستورها , والإشراف على علاقتها مع الدول الأخرى وتامين سلامتها وأمنها في الداخل والخارج , وبين أعمال الإدارة العامة التي تجريها السلطة التنفيذية بوصفها سلطة إدارة تتولى الإشراف على المصالح اليومية للجمهور ومرافقه العامة , في حين أن أمثلة أعمال السيادة التي تجريها الحكومة بوصفها سلطة حكم , هي القرارات المتعلقة بالأعمال المنظمة لعلاقات الحكومة بالهيئة التشريعية والتدابير الخاصة بالأمن الداخلي و الخارجي للدولة والعلاقات السياسية والأعمال الحربية .
فالفرق واضح بين هذه الأعمال وبين أعمال الإدارة العامة التي تجريها السلطة التنفيذية بوصفها سلطة إدارة تتولى الإشراف على المصالح اليومية للجمهور ومرافقه العامة .
خلاصة ما تقدم , أن أعمال السيادة تنحسر عن رقابة القضاء بجميع أنواعه عاديا كان القضاء ام اداريا ام دستوريا ً , فحكمة استبعاد أعمال السيادة من ولاية القضاء , انها كما اشرنا قبل لحظات تتصل بسيادة الدولة في الداخل والخارج فلا تقبل بطبيعتها أن تكون محلا للتقاضي , اي لا يمكن أن تكون اعمال السيادة محلاً للتقاضي لما يحيط بها من اعتبارات سياسية تبرر تخويل السلطة التنفيذية سلطة تقديرية اوسع مدى ً وابعد نطاقا ً تحقيقا لصالح الوطن وامنه وسلامته دون تخويل القضاء سلطة التعقيب على ما تتخذه من إجراءات في هذا الصدد , ولان ذلك يقتضي توافر معلومات وعناصر وموازين تقدير مختلفة لا تتاح للقضاء , وذلك فضلاً عن ملائمة طرح هذه المسائل علناً في ساحات القضاء .
ولما كانت هذه الاعتبارات التي اقتضت استبعاد اعمال السيادة من ولاية القضاء العادي والاداري قائمة في شأن القضاء الدستوري , ومن ثم يتعين استبعاد النظر في هذه الاعمال من ولاية المحاكم الدستورية دون حاجة إلى نص يقضي بذلك , فهي قاعدة استقرت في النظم القضائية في الدول المتحضرة وغدت اصلاً من الأصول القضائية الثابتة .
فالوصول إلى نتيجة أن الاتفاقيات والمعاهدات من قبيل اعمال السيادة من قبل المحكمة يعني رد جميع الطعون المستقبلية المتعلقة بعدم دستورية المعاهدات والاتفاقيات وتقرير عدم الاختصاص في حال التقدم بطعون من هذا القبيل , الأمر الذي يحرم المواطنين من ممارسة حقوقهم في التقاضي كحق دستوري لان نتيجة الطعن ستكون محسومة خاصة وان أحكام وقرارات المحكمة الدستورية ملزمة لجميع السلطات والافراد كافة بمقتضى الدستور والقانون .
وفي ضوء ما تقدم فان المشرع الدستوري الأردني يفرق بين نوعين من المعاهدات والاتفاقات , اولاهما : المعاهدات والاتفاقات المنصوص عليها في الفقرة (1) من المادة (33) وهي لا تحتاج إلى موافقة مجلس الأمة عليها , ثانيتهما : المعاهدات والاتفاقات المنصوص عليها في الفقرة (2) من المادة (33) التي يترتب عليها تحميل خزانة الدولة أو شيئا من النفقات أو المساس في حقوق الأردنيين العامة أو الخاصة , وهي تحتاج إلى موافقة مجلس الأمة عليها باعتباره صاحب الاختصاص الأصيل في التشريع فان تمت الموافقة عليها من قبل مجلس الأمة ثم تم إصدارها على هيئة قانون ووجب إنفاذها أصبحت قانونا , وهذا هو الفرق بين المعاهدات والاتفاقات المنصوص عليها في الفقرة الأولى والمنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة ذاتها , بمعنى أن المعاهدات والاتفاقات المنصوص عليها في الفقرة (2)من المادة (33) من الدستور بعد أن صدرت بتشريع عن مجلس الأمة أصبحت قانونا وليس مجرد أداة قانونية لها قوة القانون فقط , بل لها صيغة القانون وطبيعته , إذ لو أراد المشرع غير ذلك لنص على ذلك صراحة .
أن وصولنا إلى تلك النتيجة يؤدي بنا إلى نتيجة أخرى هي , نفاذها تجريد هذه المعاهدات والاتفاقات من اعتبارها دستورا ً أو لها قوة الدستور , إذا لا يعقل أن تكون قانونا ودستورا في آن واحد , ثم لو أراد المشرع الدستوري منحها الصفة الدستورية أو منحها قوته لنص على ذلك صراحة أو ضمنا وهو ما لم يقدم عليه .
كما أن ما يترتب على صيرورة المعاهدات والاتفاقات قوانين , هو إخضاعها للقواعد العامة للقوانين العادية من حيث نشرها في الجريدة الرسمية وسريان نفاذها بعد ثلاثين يوما من نشرها تبدأ هذه المعاهدة أو الاتفاقية – ذات الأصل الدولي – من اليوم التالي للنشر على مقتضى المادة (93/2) من الدستور , علما بان النشر ليس بالتصرف القانوني الذي يغير من طبيعة القاعدة أو يضفي عليها وصفا جديدا ً , ولكنه مجرد عمل مادي القصد منه توفير العلم بالقاعدة لدى المخاطبين باحكامها لا اكثر ولا اقل .
عودا ًعلى بدء , نقول , انه ما دمنا قد توصلنا إلى أن المعاهدات والاتفاقات المنصوص عليها في المادة (33/2) من الدستور لا تعتبر دستورا أو بمثابة الدستور وانما هي , مجرد قوانين قابله للرقابة القضائية عليها من قبل المحكمة الدستورية والطعن أو الدفع بعدم دستورية نصوصها .
وقد استقر على ذلك قضاء محكمة التمييز الأردنية في اكثر من حكم أو قرار لها , فقضت في احد قراراتها ما يلي :
" أن تطبيق الاتفاقيات هو بحكم تطبيق القانون الداخلي وعلى المحكمة التصدي له "( ).
على أن تعارض القوانين الداخلية معها لا يكون خاضعا أو الدفع الفرعي فيه بعدم الدستورية ولا يعدو أن يكون هذا التعارض تعارضا أو تنازعا ً بين قانون داخلي وقانون آخر وان كان أصله دوليا ً هذا ما انتهت إليه المحكمة الدستورية العليا المصرية في حكمها الصادر في أول مارس سنة 1975 في قولها " بالنسبة للمعاهدات الدولية فان صدور قانون داخلي بأحكامٍ تغايرها لا ينال من دستوريته ذلك أن المعاهدات ليست لها قيمة الدساتير وقوتها ولا تتجاوز مرتبتها مرتبة القانون "( ) .
خلاصة ما تقدم انه لابد من التفريق بين المعاهدات والاتفاقات المنصوص عليها في البند الأول من المادة (33) من الدستور , فهذه الاتفاقات والمعاهدات من قبيل أعمال السيادة تنحسر الرقابة القضائية عنها ,
والجدير بالذكر( ) إننا كنا قد فرقنا في مؤلفنا المعنون ب ((النظرية العامة للقضاء الدستوري)) بين المعاهدات والاتفاقيات المنصوص عليها في الفقرة (2) من المادة (33) من الدستور والمعاهدات والاتفاقيات المنصوص عليها في الفقرة (1) من المادة (33) من الدستور حيث نصت الفقرة (1) على ما يلي " الملك هو الذي يعلن الحرب ويعقد الصلح ويبرم المعاهدات والاتفاقات " فاعتبرنا أن المعاهدات والاتفاقات المنصوص عليها في الفقرة (1) هي وحدها من قبيل أعمال السيادة , كون هذه الاتفاقات والمعاهدات ترتبط ارتباطا وثيقا وعلى نحوٍ لا يقبل التجزئة مع الحروب وعقود الصلح مع الدول الأخرى , ما دام أنها تمت أو تتم بسبب الحروب أو بمناسبتها , وفي سياق النص عليها يقوم جلالة الملك المناطة به رئاسة السلطة التنفيذية بهذه المعاهدات أو الاتفاقات بواسطة وزرائه بمقتضى المادة (26) من الدستور.
وبين الاتفاقات والعاهدات المنصوص عليها في البند الثاني من المادة (33) من الدستور فهذه ليست من قبيل أعمال السيادة خلافا ً لما قضت به المحكمة الدستورية اذ تكون قابلة للرقابة القضائية عليها ولا تنحسر عنها , ذلك أن اعتبارها من قبيل أعمال السيادة لا يتناقض فقط مع ما استقر عليه قضاء محكمة التمييز الأردنية وفق ما أشرت إليه قبل لحظات بالإضافة إلى أن هذا الاعتبار يؤدي إلى حرمان المواطنين أو أن من له مصلحة من حق الطعن فيها وهو حق دستوري مقدس لا مكان للفكاك معه .
ستبقى المحكمة الدستورية حدثاً ديموقراطيا ً مشكلةً لعهد جديد في تاريخ مملكتنا , ومنعطفا ً دستوريا ً في مسار الحياه النيابية ووسيلة فعالة في ضمان الحقوق والحريات وخطوة مرموقة جدا على طريق ترشيد النظام الديموقراطي وحجر الزاوية في بناء دولة القانون كما أرادها لها رأس الدولة وتاجها .