التباين الواضح بين مطالب نقابة المعلمين واشتراطات الحكومة للاستجابة لها نموذج لتعارض الرؤى والصور الذهنية التي تحملها القوى ومكونات المجتمع عن بعضها البعض. المعلمون ومعهم غالبية مكونات المجتمع يرون المطالب عادلة ومستحقة في حين ترى الحكومة أنها غير مبررة وفي غير وقتها بالرغم من اعترافها بسوء أوضاع المعلمين واستخدام أركانها لأبلغ عبارات الإشادة بدورهم ومكانتهم.
في الوقت الذي يصر فيه المعلم على مطالبه تقترح الحكومة تعديل الصيغة لربطها بالمسار المهني. هدف المعلم من الزيادة رفع مكانة المهنة بين سائر الوظائف والمهن من خلال مؤشر مقدار الأجر الذي يمنحه المجتمع لشاغلها وباعتبار أن الزيادة في الأجر تجسد اعتراف الدولة والمجتمع بمكانة المعلم وتعيد الاعتبار للوظيفة وتمهد للسير في تطبيق المسارات المهنية.
حالة الخلاف بين المعلمين والحكومة ليست الوحيدة فغالبية القطاعات غير راضية او تعارض بعضا إن لم يكن معظم السياسات التي تطرحها وتصر عليها الحكومات وتدعمها الدولة. الضرائب وسياسة التسعير والتعامل مع ملفات التشغيل والإضرابات وإدارة ملف التعليم والتعليم العالي والتجارة الخارجية وتسعير النفط وآلية شرائه وأسلوب التعامل مع قضايا الفساد وطرق تشكيل الحكومات والنظام الانتخابي والطريقة التي يعمل بها مجلسا النواب والاعيان والإبقاء على الهيئات والمؤسسات المستقلة قضايا جدلية لا تعجب نسبة كبيرة من الناس كما أشارت استطلاعات الرأي العام وردود الفعل الشعبية.
العلاقة بين من يملكون السلطة ومن يتأثرون بها علاقة جدلية فهي تبدو من الخارج عفوية وبسيطة وقابلة للقراءة والتنبؤ بالرغم من كونها غاية في الغموض والتعقيد. الافتراضات التي تحملها طبقة السلطة عن الأفراد والجماعات والتشكيلات الاجتماعية لها وجهان أحدهما سطحي ظاهري وثانيهما خفي وعميق.
في تقييم الناس للعلاقة بين من ينفذون القوانين ومن تنفذ عليهم يمكن الخروج بنتائج متناقضة. الكثير من التناقض عائد الى نوعية المصادر والادلة والشواهد التي يجري استخدامها في التقييم. بعض الذين يقيمون العلاقة من خلال تحليل الخطاب السياسي للدولة ومراجعة هياكل المؤسسات ومسمياتها والحقوق المنصوص عليها في الدستور يتوصلون الى نتائج مفادها ان العلاقة نموذجية ومتميزة والافراد ينعمون بحقوقهم ويستمتعون بها بلا عقبات او عوائق. بالمقابل يرى الكثير ممن يتناولون الوقائع والممارسات التي تقوم بها المؤسسات على الارض وجود العديد من اوجه الاستغلال والتجاوزات على الحقوق ونماذج للاقصاء والتمييز وابتعاد عن تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص في التشغيل والترفيع والمعاملة.
من الناحية النظرية يوجد في البلاد سلطات ثلاث وهياكل لمؤسسات دستورية ورقابية وتشريعية تضاهي ما هو موجود في اكثر بلدان العالم تقدما وتطبيقا للديمقراطية. بالمقابل تتداخل القوانين والانظمة والتشريعات مع رغبات وتوجهات وميول القائمين على تنفيذها الامر الذي يجعل منها ادوات يتم تطويعها لتصبح منافية مع الروح التي وجدت من اجلها.
في حالات عديدة يجرى تفصيل المواقع لتناسب الأشخاص وتجرى مسابقات شكلية لإخراج رغبات صناع القرارات بأطر قانونية موضوعية. في اكثر من مناسبة يجرى حجز موقع مهم في المؤسسات لأشخاص بعينهم ويجري تعيين بدلاء شكليين لهم لحين عودتهم الى الموقع. التباين بين ما يقال عن العدالة والنزاهة وتكافؤ الفرص وبين التطبيقات لهذه المفاهيم والشعارات على الارض اسباب اساسية في تنامي حالة الاحباط والغضب الشعبي الذي يجري التنفيس عنه بأشكال محتلفة.
ما لم تتطابق الاقوال مع الافعال وتقدم القرارات والحسابات والمشكلات بطرق شفافة وآليات قابلة للاختبار والتحقق فستبقى الاوضاع مرشحة للسير باتجاهات غير مرغوبة لأحد.
لكي ينشأ حوار حقيقي منتج لا بد من احترام الاطراف لبعضها البعض واتفاقها على توصيف الواقع وتقديم ومناقشة مقترحات كل منها للوصول الى المأمول الذي يلبي المصلحة العامة. الاتهامية والتخوين والشيطنة للطرف الآخر لا تسهل عملية الحوار بل تنزع الثقة الضرورية لنجاح العملية.
الغد