الدولة من الانسحاب إلى ضرورة العودة
د. فيصل الغويين
21-09-2019 02:10 PM
الأصل في تكوين الدولة الحديثة أن تكون معبرة عن توازن القوى الاجتماعية الفاعلة في حركة المجتمع، إلا أنّ هذا التوازن يكاد يكون مفقودًا على المستوى العربي؛ حيث يحتل أصحاب رأس المال والأغنياء مكان الصدارة، بينما يحتل العامة الهوامش. ويترتب على ذلك أن تتجه جهود الدولة إلى حماية مصالح أصحاب الثروة على حساب مصالح عامة الناس، بل قد يصل الأمر إلى حد إهمال المصالح العامة إهمالًا تامًا.
وللتعبير عن هذا الوضع، شاع استخدام مصطلح انسحاب الدولة، وخاصة في العقدين الأخيرين، والذي يعني أنّ الدولة نفضت يدها من مسؤولياتها العديدة، مطبقة نهجًا نيوليبراليًا، كانت آثاره كارثية على المجتمع، حيث تراجعت كفاءة الخدمات العامة الأساسية كالتعليم والصحة والنقل، لصالح التوسع في الاتجار بهذه القطاعات، مما أوجد فجوة اجتماعية وطبقية هائلة، وزاد من الأعباء المعيشية للمواطن، ووسع رقعة الفقر والبطالة، وبدأت تتنامى المشكلات الاجتماعية، كالطلاق والتفكك الأسري، مع تزايد ملفت للجريمة بكل أنواعها، وتفشي التعاطي والاتجار بالمخدرات، وشيوع أنماط من السلوكيات لم تكن مألوفة كالرشوة، والجرائم المالية بأشكالها، وتنامي الفساد بكل أشكاله وأحجامه، وتراجع ثقة المواطن في مؤسساته الدستورية، وتراجع الشعور بالانتماء، وضعف الانتاجية، وسيادة مشاعر الإحباط واليأس، وعدم اليقين، والخوف من المستقبل، وهي مشاعر تشد المجتمع إلى الخلف، وتساهم في تآكل منظومة القيم والأخلاق العامة، وهي الإطار الذي يشكل الحماية الحقيقية للمجتمع بكل فئاته.
وكما أنّ فكرة العدالة فكرة فلسفية، فهي فكرة دينية، وقيمة اجتماعية، ومبدأ أخلاقي. وتتداخل هذه الفكرة مع مفاهيم أخرى مثل المساواة، وتكافؤ الفرص، والتمييز، والتهميش، والعدالة القانونية، والحرية. وتتداخل مجالات تطبيق هذه العدالة، بحيث تشمل مجالات اقتصادية وسياسية وقانونية واجتماعية وتربوية.
وتأسيسًا على ذلك فإن العدالة الاجتماعية هي تلك الحالة التي ينتفي فيها الظلم والاستغلال والحرمان من الثروة أو السلطة أو كليهما، والتي يغيب فيها التهميش والإقصاء الاجتماعي والسياسي، ويتاح فيها لأعضاء المجتمع فرص متكافئة لتنمية قدراتهم وطاقاتهم الابداعية، وحسن استثمارها لمصلحة الجميع، بما يكفل لهم إمكانية الحراك الاجتماعي الصاعد من جهة، ومصلحة المجتمع والوطن في الوقت نفسه.
إنّ حركة التطور الاجتماعي تستلزم وجود مشاركة سياسية حقيقية، وفلسفة جديدة لكيفية إدارة شؤون الوطن، تنبثق من الانسان وواقعه وحاجاته الأساسية، مما يعني ضرورة استعادة الدولة لدورها الحقيقي في قيادة التنمية، والاعتماد على الذات، من خلال حكومات وبرلمانات ذات مصداقية، تملك الولاية الدستورية والقانونية، وبرامج حقيقية للنهوض، بعيدًا عن الوصفات الجاهزة التي عمّقت التبعية بكل أشكالها، وقادرة على ضرب ومحاصرة شبكات الفساد، وهو البديل الأمثل لإيجاد مواطن قادر على الحوار والمشاركة في صنع القرار الوطني، وتحمل المسؤولية، والأهم استعادة الثقة المفقودة، وحين نستطيع أن نصل إلى ذلك سوف نكون قد بدأنا بالوقوف على أرض أكثر صلابة من أجل تحقيق الأهداف الوطنية المنشودة.