هل أصبحت التفاهة منتجاً مرغوباً وثقافةً مبررةً ووضعاً راهناً في هذا العصر؟ وكأننا أصبحنا نعيش توجهاً يكاد يكون عالمياً نحو التفاهة، كل شيء، تقريباً يتم تتفيهه! العلم والسياسة والإعلام والثقافة والتاريخ والإدارة وغيرها من الرموز المهمة لبناء المجتمع والحضارة ولبناء أي شكل من أشكال الوعي الفردي أو الجماعي.
الواضح أن الأقزام التافهين باتوا يظهرون بمظهر العمالقة، ويسيطرون ويحكمون قبضتهم على كل شيء. انهم كثر من حولنا، يطلّون علينا من كل مكان، ويدخلون البيوت عنوة، وما باليد من حيلة لطردهم. أخذوا زمام المبادرة، ورسن توجيه المجتمع وتخطيطه الاستراتيجي بتحكمهم في المال والسياسة، تفاهتهم هذه لا يجيدها المثقفون والمتنورون، لأن المثقفين والمتنورين يلتزمون بمنظومة قيم لا يملكها التافهون. ولا يتنازلون عنها لا يراوغون ولا يهادنون ولا يستسلمون في سبيلها،
فلا عجب أن يملك شاب رياضي فاشل في الدراسة، أو مغنية أغلقت أبواب المدارس في وجهها باكراً، ما تعجز النار عن حرقه، وما لا يمكن أن يملك جزءا منه كل مثقفي المجتمع طيلة حياة عملهم وكدهم من المال.
ولا عجب أن نرى تافه أمّي يتاجر في المخدرات، ويقوم بتبييض أمواله، فيبني مسجداً لعبادة الله، أو مستشفى ليشغِّل الأطباء العباقرة عنده، وقد يبني آخر مدرسة أو جامعة ليشغِّل الأساتذة المتميزين عنده، وينشئ آخر شركة مقاولات ليوظف المهندسين العباقرة، ليغدو هو الرمز والقدوة في المجتمع والمثل الأعلى،
ولا أتوقع أن التافهين يعرفون معنى التفاهة في اللغة العربية، والتي تعني حسب معجم المعاني نقص في الأصالة أو الإبداع أو القيمة، كما تعني انعدام الأهمية والحقارة والدناءة.
نعم أصبحت التفاهة كنز عند البعض يحافظون عليه بكل الطرق والوسائل ويطلقون العنان لتأكيد دورهم في نشر وباء العصر ولا يوجد لديهم سلاح أخر غير التفاهة لإثبات وجودهم في المجتمع.
النجاح في ظل نظامهم التافه، أن تلعب اللعبة وتنتهز الفرصة كقاعدة في الحياة وكانتماء أعمى يقوم على شكليات السهرات والغداءات والاكراميات والرشاوى والانتقامات... دون تقديم أية فكرة أو طرح أية وجهة نظر ثاقبة. النجاح أصبح يساوي المال والمال فقط،
لا شك أن وسائل الإعلام الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي وفّرت لهؤلاء التافهين فرصة للظهور والانتشار والخروج من جحورهم، بعدما تطبّع الناس تدريجيا مع هذا العبث الاليكتروني، من خلال الدفع بهؤلاء النكرات والمجاهيل والمغمورين الذين لم يكونوا شيئا مذكوراً دفعت بهم إلى مدارج الشهرة ومصاعد النجومية، نتيجة قيامهم بأعمال "عبثية" وأشياء "تافهة" .
نعم وجدت التفاهة فرصتها العظيمة عبر شبكات التواصل الاجتماعي وكالأخطبوط تمد أذرعها في كل مكان للتشويّش على التميز والإبداع، وتحيل المشاعر النبيلة إلى لذّات وشهوات تافهة تنخر في جسم المجتمع.
وكما يقال الأحمق عدو نفسه وكذلك الإنسان التافه، فهو يبحث دائما عن شماعة يعلق عليها فشله وسقوطه الأخلاقي وفراغه الفكري. إذ يشعر التافه بعقدة النقص ويعاني من الدونية لذلك يجد وسيلة للخروج من هذا البؤس باختلاق قضية وهمية يعلق عليها فشله ويستمر في الكذب على نفسه في طريق اللاعودة.
وواجبنا محاربة التفاهة في كل صورها وعدم إعطاء أصحابها أدنى أهمية لنقضي على الإسفاف والتتفيه كسلوك أصبح رائجاً، لنحارب التافهين بالموضوعات ذات الأهمية الأخلاقية والعلمية والنفسية حتى يخرجوا من عمق مياههم الراكدة المليئة بالفيروسات والجراثيم الفكرية التي يتأثر بها الشباب والناشئة أكثر من غيرهم.
taasoleiman9@gmail.com