يمرّ أيلول ويجرّ مع غيمه سيلاً من الذكريات ، ولأن العسكر جزء أصيل من تاريخ بلادنا ، يستذكر أبي حكاياته مع أيلول الذي ما زال متوهجا في ذاكرة الأردنيين .. كان أبي يستلم حراسته العادية بالقرب من المدخل الخاص في "المقرّ" ، والبلاد غارقة في الفوضى ، لكن العسكر لم تتزحزح ثقتهم بالنصر وبالقيادة ، لأنهم الحق والحق لا غالب له .
أبي يصنع " شايا " في علبة الحليب المعدنية الفارغة ، يضعها على جمرة ويخبئها في مكان خفارته عن ريح أيلول المبكّرة ، ويخبئ نارها عن عين قنّاص جبان يبحث عن فريسة يفرغ رصاص حقده فيها .. يمرّ الشهيد وصفي التل من هناك وهو الذي لم يفارق الملك الحسين ومعه حابس المجالي وزيد بن شاكر في تلك الأيام الصعبة .. يمرّ ويشاهد الشاي على النار الخجولة ، يقول لأبي : " مطوّل شايك " .. يستحي أبي من الشاي ومن علبته الصغيرة ويقول له :" شوي بده يا أبومصطفى " ..
يجلس وصفي التل وينتظر نضج الشاي ويصبّ له أبي كاسة من علبته المعدنية ، ثم يطلب كاسة أخرى ، ويناقشه أبي في وضع البلاد ويقول : "إصبروا شوي .. والله لتنحل واللي يرضيكوا ..! ".. ثم يغادر شاكرا لأبي ولشايه ..
أستذكر في هذه الأيام وصفي التل وكيف كان الناس يؤمنون أن الدولة هي السند وهي التي ستحل كل مشاكلهم رغم أن الثمن غالي ، وهو الدّم والبارود وأرواح الرجال ، ليت كل شيء يفدى بالمال والعلاوات ، والعجز ليس في موازنة الدولة ، وإنما العجز في إنتاج رجال الدولة .