مصطفى محمود .. رحلة عاصفة
حسين الرواشدة
05-11-2009 03:12 AM
أول مرّة سمعت فيها بالدكتور مصطفى محمود ، كانت من خلال قراءتي لكتابه «حوار مع صديقي الملحد» لم اكن آنذاك قد تجاوزت الثانية عشرة من عمري ، اعجبت بالرجل وحرصت على اقتناء كتبه ومتابعة برنامجه الشهير «العلم والايمان» ، وكثيرا ما وجدتني اختلف مع بعض افكاره ، ولكنه اختلاف المحب المقدّر ، اختلاف لم يفقدني الاعجاب به واحترامه.
بدأ المرحوم مصطفى محمود رحلته من الشك حين سمع من امام المسجد الذي كان يصلي فيه ، وهو صغير ، ان كتابة بعض الآيات القرآنية على ورقة وتعليقها على جدار الغرفة من شأنه ان يقضي على كل الحشرات والصراصير ، صدّقَ الطفل مصطفى ما قاله الامام وجرّب نصيحته ، لكنه فوجىء بان اعداد الحشرات قد زادت ، وبأنها اتخذت من الورقة مكانا آمنا لها.. ومنذ ذلك الوقت بدأ يفكر.. أقنع والده بان يشتري له معملا صغيرا لصناعة الصابون والمبيدات الحشرية لقتل الصراصير..واستخدامها لاحقا كبديل لما نصحه الامام به.
كان سؤال «العلم» آنذاك يلحّ عليه باستمرار ، هل يستطيع «بالعلم» وحده ان يفهم هذا الكون؟ لقد احتاج الامر - كما يقول - الى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب وآلاف الليالي من الخلوة مع النفس وتقليب الفكر على كل وجه لكي اقطع الطريق الشائكة من الله والانسان الى لغز الحياة والموت الى ما اكتب اليوم على درب اليقين ، وحين وصل الى اليقين لم يتركه الاخرون بشأنه فقد تعرض الرجل لموجة من الانتقادات والاعتراضات ، في عهد عبدالناصر تم تحويله للمحكمة بطلب من الازهر ، فاكتفت بمصادرة كتابه «الله والانسان» وقبل سنوات اثار كتابه عن «الشفاعة» ردود افعال قاسية ، وصلت حدّ التكفير ، وفي آخر ايامه طلب منه بعدم التعرض لليهود.. وكانت تلك - كما قال نجله - القاصمة التي هزّته وفجعته.. خاصة بعد ان حذرته «الاهرام» التي كان يكتب فيها من الاشارة بالنقد لليهود والاسرائيليين.
كان مصطفى محمود - رحمه الله - متفوقا في دراسته ، لكنه توقف عن الدراسة ثلاث سنوات حين ضربه معلم اللغة العربية ، ثم عاد للدراسة في مدرسة اخرى ، ودخل كلية الطب ، واشتهر فيها باسم «المشرحجي» لوقوفه طوال اليوم امام اجساد الموتى يتأمل فيها ، لكنه مغرما بالفلك الى جانب الطب ، فقد اشترى «تلسكوبا» ظل من خلاله يتابع اخبار الفضاء ، كما تعود على الانقطاع للكتابة اياما وشهورا عديدة على «سريره» الذي بقي التجويف فيه شاهدا على انقطاعه للبحث والكتابة.. بعيدا عن الجلوس على المكاتب.
في عهد السادات عرضت عليه الوزارة فرفضها ، قائلا: «انا فشلت في ادارة اصغر مؤسسة وهي زواجي ، حيث كنت مطلقا مرتين فكيف انجح في ادارة وزارة».. لكنه - بالتأكيد - نجح في اثراء المكتبة العربية بأكثر من 90 كتابا ، وبنحو 400 حلقة من برنامجه «العلم والايمان» الذي قاتل من اجل استمراره ، ولكنه اوقف لأسباب غير مفهومة.
رحل مصطفى محمود ، قبل ايام ، لكنه سيظل علامة بارزة لقرن عربي مضى «توفي عن عمر 88عاما» اشتبكت فيه الاحلام والاوهام بالحقائق ، والشك باليقين ، والهزيمة بالانتصار ، والخوف بالامل ، والكراهية بالحب ، ومن حسن حظنا ان الرجل جسّد كل هذه الثنائيات المشتبكة ، وقدّمت لنا سيرته صورة صادقة عنها.
رحم الله مصطفى محمود ، فقد كان يظن ، كما قال عنه صديقه الشاعر كامل الشناوي: ان العلم يمكن ان يجيب عن كل شيء ، وعندما خاض فيه ولم يجد بحث في الاديان ثم انتهى الى القرآن ووجد فيه كل ما اراد.