بين الزيادة النقدية والزيادة الحقيقية
د. محمد العايدي
12-09-2019 05:35 PM
مما دعاني الى كتابة هذا المقال اننا صرنا في وضع لا نحسد عليه بعد الازمة الكبيرة القائمة بين النقابة والحكومة، والتي على اثرها صار الناس بين مؤيد ومعارض، بل وصارت مزايدات من الطرفين مخجلة، وكأننا لا نعيش في وطن واحد وفي سفينة واحدة، اما ان ننجو جميعا او نهلك جميعا -لا قدر الله-، ولذلك الوعي في هذه المرحلة التي تمر بها البلاد مطلوب ولا نقبل التشكيك والتخوين لبعضنا تحت اي ذريعة كلنا ابناء وطن واحد همنا واحد وهو النهوض بهذا البلد ومصلحتنا واحدة وان اختلفت اراءنا .
رسالتي الاولى الى الحكومة:
معلوم أن الاردن من الدول التي فيها خلل اقتصادي كبير في عدالة توزيع الدخل والثروة على الفرد سواء المعلم او اي مواطن آخر، فتشير دائرة الاحصاءات العامة ان 15% من السكان في الاردن يملكون 85% من الدخل والثروة، وهذا يعني ان 85% من السكان في الاردن يملكون فقط 15% من الدخل والثروة، في حين ان الدول المتقدمة تجد ان توزيع الدخل والثروة لا يوجد فيه هذا الفارق الكيبر، فتجد النسبة 40% من السكان يمكلون 60% من الثروة هذه هي المعادلة الاقتصادية الامثل التي يجب الوصول اليها بتقليص الفارق بين السكان بالتوزيع العادل للدخل والثروة بينهم، وهذه مشكلة اكبر من مشكلة المعلم فقط، بل هي مشكلة تمس معظم المواطنين، ولذلك جاءت مشكلة المعلم كنتيجة لهذه المشكلة العامة، وهي عدم العدالة في توزيع الدخل والثروة في الاردن، وهذه المشكلة لن تحل بيوم وليلة، بل لا بد من انتهاج سياسات طويلة المدى من اجل تقليص الفارق في دخل الفرد في الاردن منها مثلا:
اولا: التوقف عن تصدير المواد الخام غير المصنعة باسعار رخيصة، بل لا بد من تصنيعها داخل البلد ثم بيعها.
ثانيا: ايجاد مشاريع صغيرة ومتوسطة من اجل تقليص البطالة التي تحدث عنها مؤخرا جلالة الملك في ازمة المعلمين الاخيرة فقال: اولويتنا هي تقليص البطالة، وهذا صحيح في المنظور الاقتصادي المستقبلي .
ثالثا: تشديد الرقابة على القطاعين العام والخاص وانهاء حالة التهريب والاعتداء على المال العام، وعلى القطاع الخاص في منع الاحتكار واستغلال المواطنين في مجال الصحة في المستشفيات والعيادات الخاصة والتعليم الخاص، بحيث تحدد نسبة الربح للمؤسسات الخاصة التعليمية والصحية، او ان تدخل الحكومة كشريك مساهم للحد من استغلال القطاع الخاص للمواطنين او الاجانب، كما حصل في السياحة العلاجية حيث قامت المسنشفيات الخاصة وبغياب تام للرقابة الحكومية باستغلال الاجانب، وتوريطهم بمبالغ ضخمة ادت الى هروبهم الى بلدان اخرى للعلاج، وقد اشار رئيس الوزراء قبل ايام في لقائه مع التجار الى هذا الكلام.
رابعا: انهاء سياسات التمكين، والفساد الاداري، ومعيار الانتماء، او المحاصصة، وانتهاج نهج تكافؤ الفرص في العمل والتوظيف .
خامسا: على الحكومة اذا ارادت التوزيع العادل للدخل والثروة أن تأخذ خطوات عملية في سبيل التنمية، وتعتبر هيكلة الاقتصاد، والبعد عن الحلول النقدية المؤقتة، كما في حالة أزمة علاوة التعليم اليوم من افضل الحلول بل لا بد أن تنتهج نهج الاستشمار للخروج من الازمة.
عدالة التوزيع ليست سياسات عليا لا يفهمها سوى الساسة والاقتصاديين وانما يعتبر الفرد هو المعيار الحقيقي والدليل الكافي على عدالة التوزيع او الظلم في التوزيع للدخل والثروة.
رسالتي الثانية الى بناة الاجيال (المعلم):
للأمانة أن الزيادة التي يطالب فيها المعلم هي زيادة متواضعة، واقل مما يجب له بالنسبة الى حجم المسؤولية الملقاه على عاتقه، وان كان البعض يتحدث عن مهنة المعلم وكأنها وظيفة عادية يدرجها ضمن وظائف الدولة المختلفة، انا اخالفهم الرأي فمهنة المعلم لا تقاس بساعات العمل او عدد ايام الدوام خلال السنة بل تقاس بخطورة المهمة المكلف بها .
فكثير من المهن يعمل اصحابها سويعات قليلة، ويأخذون اجورا كبيرة، وذلك لاهمية وخطورة العمل، كالاطباء مثلا، فهم يحافظون على ارواح الناس وحياتهم، وكذلك المعلم فهو يحافظ على عقول الطلاب وينميها وعليه مسؤولية انشاء اجيال لتقوم ببناء الوطن والحفاظ عليه، فهل ترون ان وظيفة المعلم اقل من وظيفة الطبيب والمهندس ؟!! هو الذي اهلهم الى هذه المراتب، لا اتوقع ان عاقلا ينكر هذا الكلام في حق المعلم .
ومن ناحية ثانية الزيادة التي يطالب بها المعلم هي زيادة من اجل انقاذه من تحت خط الفقر لا زيادة كمالية ترفيهية، فرواتب المعلمين وموظفي الدولة عموما بالنسبة للمؤشر الاحصائي هم تحت خط الفقر، حيث يشير ان خط الفقر المطلق لعائلة مكونة من 7 افراد هو (814) دينار، واغلب رواتب المعلمين والموظفين اقل من ذلك بكثير، بل قد لا تصل الى نصف هذا الرقم، مما يدل انهم يعيشون في الفقر المدقع، ولذلك لا يجرؤ أحد أن يقول ان مطالب المعلمين غير مشروعة.
وأما رسالتي الثالثة فهي الى النقابة :
سعادة النقيب المحترم او نائبه او كل من له علاقة باتخاذ القرارات عن المعلم، ارجو ان تتفهوا مقالي هذا وتفكروا به قليلا :
اولا: ارجو ياسعاد النقيب ان تراجعوا مطالبكم، فهي وان كانت مشروعة، ولكنها غير موفقة من حيث التوقيت، ومن حيث الاسلوب، ومن حيث طريقة الوصول للغاية المشروعة.
وذلك أننا جميعا يعلم ان الاردن من الدول التي تأثرت تأثرا كبيرا بالاحداث التي جرت من حولنا وفي العالم ككل، ولكني لا اقول هذا الكلام من اجل اعفاء الحكومة من مسؤولياتها اتجاه الموظفين او المواطنين بشكل عام، لان اخذ الاحتياطات واجراء التدابير اللازمة هي مسؤلية الحكومة اولا واخيرا، واطلاع المواطنيين على الخطط الحكومية اولا باول من مراقبة جادة وحقيقية للخطط التي توضع ومراقية تنفيذها.
ومع ذلك فان هذا هو الواقع الحكومي الموجود، وان كانت الحكومات المتعاقبة كلها تتحمل المسؤولية مجتمعة عما وصلنا اليه، وليست حكومة الرزاز فقط.
فهل يعقل في هذا الظرف العصيب ان نطالب حكومة مرهقة بمطالب كبيرة، وعلى الفور؟، قد لا يكون مناسبا هذا الامر وان كان مشروعا.
اذن هل يسكت المعلم ولا يطالب بتحسين وضعه المعيشي الواجب ؟! ايضا نقول لا، هذا المطلب مادام انه مشروع لا بد من تحقيقه بالاسلوب والطريقة الامثل :
اما الاسلوب الذي كنا نود ان تقوم به النقابة هو التصعيد التدريجي، من أجل اعطاء فرصة للحوار، وليس بصيغة التحدي الذي قامت بها، لان المقصود هو الحصول على الحق المشروع في الزيادة، لا كسر العظم، فالنقاية ابتدأت من النهاية.
أما الطربقة التي طالبت فيها النقابة بتحسين وضع الرواتب فكانت ايضا طربقة ضعيفة، لا تنم عن فهم عميق لتحسين الوضع الاقتصادي للمعلم، لان هذه الزيادة النقدية التي تتطالب بها النقابة لن تحسن من وضع المعلم كثيرا في الوضع الراهن، وعلى المدي القريب -اي بعد سنوات- سيجد العلم نفسه قد عاد الى المربع الاول في ظل زيادة التضخم الحالية وضعف القوة الشرائية للدينار وتباطئ النمو الاقتصادي مع زيادة الدين العام.
ولذلك لا بد أن تكون نظرة النقابة اشمل واوسع لصالح المعلم، وهي ان تطالب بالزيادة الحقيقية لدخل المعلم، لا الزيادة النقدية، فالزيادة الحقيقة هي التي تتم عبر عمل مشاريع تنموية خاصة بالنقابة يعود ريعها على المعلم على المدى الطويل، قد لا يلمس المعلم نتائجها في السنتين القادمتين، ولكن سيجد ثمار هذه الطريقة الاستثمارية والتنموية بعد ذلك، وبشكل متصاعد ومتزايد.
فقد تطالب النقابة بمبالغ اقل من المطلوبة الان، فاذا كان فرضا المطلوب مئة مليون دينار سنويا من اجل تحقيق اضافة قليلة على دخل المعلم، وستتلاشي هذه الاضافة بعد سنوات لما قلنا من تزايد التضخم، وضعف القوة الشرائية للدينار، وتباطؤ التنمية الاقتصادية، يمكن ان تطالب بنصف هذا المبلغ سنويا او ربعه، على ان تستثمر هذه الاموال في مشاريع تنموية قليلة المخاطر، تعود في المستقبل القريب على المعلم بدخل مجزِ افضل مما هو مطالب به الان من طريقة المبالغ الكبيرة المطلوبة على الفور.
وهذا يدل على ان النقابة لم تدرس الخيارات قبل طرح الزيادة فاذا كان الامر كذلك فانا انصح سعادة النقيب ان يعيد النظر في المطالب، ويخفض المطالب من زيادة نقدية ضخمة الى زيادة حقيقية بمبالغ اقل بكثر مما هو مطلوب لعمل مشاريع استثمارية دائمة وبارباح متزايدة، واتوقع ان استجابة الحكومة ستكون اسرع وافضل.