الوعي الوطني وفخاخ التوقيت
سامح المحاريق
12-09-2019 04:02 PM
طرحت إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش مشروع الشرق الأوسط الجديد في سعيها إلى التقدم إلى محطة ما بعد بغداد 2003، ولمن يتذكر السياقات العامة عايشت الأردن أجواء غير مريحة في تلك المرحلة، لتأتي بعدها فترة رئاسة باراك أوباما وتؤسس لحالة من الهدنة السلبية لعبت الأردن خلالها دوراً مهماً في محاولة تشكيل طروحات واقعية مقابلة، إلا أن بوادر الصدع في التوجهات العربية أخذت تتسع بصورة متسارعة وصولاً إلى محاور منفصلة.
حفرت إدارة بوش الابن الأساسات لمشروع يهدد البنى المستقرة للمنطقة ويشكل خطراً وجودياً على دولها، وحتى مع تجنب التدخل في هندسة المنطقة في عهد الرئيس أوباما، فإن الخلخلة التي حدثت في العامين الأخيرين من إدارة سلفه كانت تعلن عن نفسها مع منعطف الربيع العربي، ومرة أخرى، تمكن الأردن من الإفلات من عين العاصفة وإن لم يشكل ذلك حائلاً دون أن تمسه ارتدادات الزلازل في دول الجوار، ولا أن يدفع ثمناً مبالغاً فيه نتيجة لمواقفه من مشروعي الشرق الأوسط الجديد والربيع العربي.
لنعترف بأن الأردن بشكل عام ليس الدولة التي تطمح لأن تستولي على التأثير في المنطقة، فلا توجد مزاحمة من الأردنيين وقيادتهم على قضية مراكز الثقل، فلدينا من الهموم والطموحات التي تتعلق بالأردنيين ومستقبلهم ما يكفي، ومع ذلك فلا يمكن لأي محور في المنطقة أن يدعي قدرته على تمرير مشروعه دون وجود الأردن، أو موافقتها أو مباركتها، بصورة صريحة أو ضمنية، هذه قصة تدركها الإدارة الأميركية والأطراف العربية، وتحاول أن تتجاهلها أيضاً، وكثير جداً مما عايشه، بل وعاناه، الأردن منذ سنة 2011 يتعلق بهذه المسألة.
يروي إحسان عبد القدوس أن شخصية رابعة كانت حاضرة بقوة أثناء مفاوضات كامب ديفيد بين مصر واسرائيل، على الرغم من أنها لم تتواجد مطلقاً داخل قاعة الاجتماعات، ولا داخل الولايات المتحدة كلها، ففي المحادثات التي ضمت في أعلى مستوياتها الرئيس الأميركي جيمي كارتر، والمصري أنور السادات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجن، كان دور الملك الحسين كما يصفه عبد القدوس وننقله حرفياً: المركزي الرئيسي الذي تنتهي إليه كل الاقتراحات والمناقشات التي تعرض على المؤتمر.. ما هو موقف حسين من هذا الاقتراح.. وما هو رأي حسين.. وهل يقبل حسين.. أم هل يرفض حسين؟
حسناً، ولأن الأردن على كل التغيرات والتحولات احتفظ بثوابت وطنية لا يمكن تجاوزها، ومنها تلك المواقف من القضية الفلسطينية، فإنه يمكن تغيير أسماء الأشخاص وموقع الاجتماع لندرك مدى حضور الأردن إذا كان ثمة بحث عن مستقبل لأي حلول يقدمها المجتمع الدولي، حتى لو تمددت حالة الإنكار لهذه الحقيقة، فليست سوى أشهر ليست بالبعيدة عندما كان الموقف الأردني يصر على استقلاليته على الرغم من كل الضغوط المباشرة وغير المباشرة.
هل يمكن أن نعزل ذلك عن الوضع الاقتصادي؟ لن نكون منصفين لو فعلنا ذلك، وليكن ثمة تقصير من الحكومة، وكثير من التقولات حول تجاوزات، وبعض التلميحات حول قرارات أو إجراءات، إلا أن ذلك ليس بالأمر الجديد، فمن يمكن أن يقدم جرداً للحساب كيف آلت كل فرص الثمانينات الذهبية إلى كارثة اقتصادية مريرة؟ التفاصيل سياسية قبل أن تكون اقتصادية!
يقولون، وأصحاب القول ساسة معتقون ليس الوقت مناسباً لتعدادهم، أن مصير الأردن ألا يسقط مطلقاً، وألا يطفو أبداً، ويتأمل مهندسو رقعة الشطرنج الكبرى حتى من قبل زبغنيو بريجنسكي أن تبقى هذه المقولة سارية المفعول ما استطاعوا، ويحاول الأردنيون دحضها بشتى الصور ومختلف الطرق، ففي داخل هذا البلد بذلت تضحيات كثيرة ليتقدم بأبعد كثيراً من إمكانياته المادية، وفي داخله طموحات كبرى تحملها أجيال شابة تعرف أنها تمتلك الطاقات لوضعه في مكانه المناسب واللائق.
لنعد إلى فوضى المنطقة الخلاقة التي استكانت لفترة وجيزة وعاودت هبوبها بعنف، ولنتلقف قطعة البازل الجديدة التي توضع في مكان إشكالي لاستكمال الصورة في المخطط الممتد، فالسياسي الطموح والانتهازي بنيامين نتنياهو يقدم وعداً بضم غور الأردن إلى اسرائيل، فما الذي يعنيه ذلك، خاصة مع ربطه بتحركات نقل السفارات إلى القدس، وإعلان السيادة على مرتفعات الجولان؟
عملية اختطاف وابتلاع وتذويب لما تبقى من المطالب الفلسطينية، لوضعها في صورة معازل عنصرية، وتحويل سقف المطالبات لمجرد معاملة الفلسطينيين ككائنات إنسانية، وبالتوازي مع ذلك تصدير كل الأزمة الإسرائيلية إلى الأردن، وبكثير من التجرد فما نراه اليوم من مخططات وهوس يتجاوز حتى مخطط الوطن البديل، وينتقل إلى أوهام توراتية تلقي بحبائل المطامع للاستيلاء على الأردن.
لماذا هذه المخاوف؟
نتغافل في الأردن عن التفكير بعيد المدى، التغيرات المناخية التي ستجعلنا من الأماكن القليلة في المنطقة التي تمتلك جاذبية سكانية، بجانب الفرصة السكانية الموجودة أصلاً في ظل التقدم في الشيخوخة في أوروبا، الموقع الجغرافي وبدائل الطاقة النظيفة، الثروة السياحية، هذه تطورات يمكن أن نلمحها اليوم، ولكنها ستكون لحم الحقيقة الحي بعد خمسين عاماً أو أكثر قليلاً، ولذلك فمن مصلحة اسرائيل التوهين المستمر والمبرمج للأردن، ومن واجبنا أن نلتفت لهذه التهديدات.
من غير المقبول في هذه المرحلة أن نتبادل الإدانات أو ندخل في جدل بيزنطي حول التفاصيل، أن نتحدث مثلاً عن عدم عدالة مطالب هذه الفئة أو تلك، أو أن نقدم صكاً مجانياً لتبرئة الحكومة من التزاماتها والاستحقاقات القائمة أمامها، على العكس من ذلك، فالإصلاح السياسي والاقتصادي جزء من منظومة المواجهة، ولكن التوقيت هو الكلمة الحاسمة في هذه المرحلة، كما كان دائماً منذ 2011 وحتى اليوم، ولنفكر فقط في الأثمان التي دفعناها لعدم استدراجنا لأية قرارات تهدد مصالحنا العميقة والبعيدة المدى في التوقيت غير المناسب.
ربما أنجزت عملياً ما أود قوله، وأي دعوة للوحدة الوطنية وتسوية الصفوف ومحاذاة المناكب وسد الخلل ستكون تزيداً يفتئت على فطنة القارئ وذكائه، ولكن لنخلص بأن الأردن يمر بلحظة حاسمة في توقيت صعب للغاية ووسط تبدلات جارفة في الأهواء والمصالح والتوجهات وبما يجعل من المحتم أن نشخص في اتجاه واحد، وأن نحتفظ بأوراقنا وصكوكنا وحتى نقاط تمركزنا في أي مفاوضة أو مطالبة للحظة أخرى مناسبة، وهذه اللحظة لن تكون بعيدة في لعبة العض على الأصابع وتهشيم العظام التي تجري في كل مكان من بكين إلى واشنطن.
الرأي