الأردن .. بين فائض الانتماء للخارج وتوجيه السخط للداخل
أبو جون
12-09-2019 03:51 PM
منذ فترة قصيرة؛ كنت أشاهد فيلماً يتحدث عن طبيب أفريقي يعيش في الولايات المتحدة، كان يحارب بشدة من أجل إظهار حقيقة طبية، مفادها أن لاعبي كرة القدم الأمريكية هم أكثر تعرضاً لاحتمالات الإصابة بارتجاج المخ، وقد لُوحق بكثيرٍ من الضرر لما ستسببه النتائج التي توصل إليها بخسائر مادية لأصحاب المصلحة، ولكنه كان شديد الحرص في أثناء دفاعه عن مبادئه أن يستمر في تكوين عائلة مستقرة في الولايات المتحدة مع فخره بكونه طبيب نيجيري يعكف على الدفاع عن مصلحة اللاعبين الأمريكيين الطبية، وبعد أن أثبت الكثير من الحقائق؛ جاء المشهد الأخير من الفيلم، وهو يقابل أحد أفراد البيت الأبيض، الذي استدعاه ليخبره بأنه حصل على الجنسية الأمريكية أخيراً، وتابع قائلاً "لقد اثبتَّ أنك أمريكي بما فيه الكفاية؛ أتريد أن تعرف مزايا ذلك؟"، فرد عليه الطبيب مباغتاً "لا داعي، أعتقد أنه شيء جيد جداً".
حقيقة الأمر، لقد ألهمني هذا المشهد لأفكر بأن هذا الطبيب -ومثله كثيرون- يحملون سبباً واضحاً ليجعلهُم ينتمون لدولٍ أخرى، كونهم يمتلكون عناصر الاغتراب التي تتيح لهم أن يشعروا بالانتماء، حيث تصبح هذه الدول مكاناً للعمل وكسب الرزق والاستقرار، مع فخرهم بأصولهم ومنابتهم، لكنني سرعان ما استذكرتُ الحالة التي يعيشها بعض المواطنين الأردنيين، الذين يتواجدون في وطنهم ولكنهم ينتمون لدول وجماعات خارجية، أكثر من انتمائهم لدولتهم، ويشعرون بالفخر بحالة التنمية الموجودة في تلك الدول، وكأنها تعنيهم حقاً، دون أن يشعروا بمسؤوليته تجاه وطنهم الذي لابد أن يكونوا هم جزء من تنميته وتطويره، ويستميتون بالدفاع عن سياسيين وجماعات من الخارج لأنهم مشبعون بخطاباتهم الرنانة حول أحلام القومية والوحدة العربية وتحرير فلسطين، بمجرد الاستماع لشدة لهجاتهم المثالية.
يزعجني بشدة أن أرى الدولة الفتيّة، يذهب شبابها نحو فرضية الانتماء للخارج، فكرياً وأيدولوجياً، أكثر من انتمائهم للداخل، مع أنهم في الحقيقة لا يربطهم مع هذه الأطراف سوى حبال وهمية، شيء من البروباغاندا والدعاية التي بثتها هذه الأطراف بعقولهم، بكفاءة عالية وبتمكّن شديد، جعلتهم يظنون أن المثالية التي يحلمون بها موجودة بالفعل بهذه القيادات، متناسين وغير متعمقين بما أنجزته الدولة الأردنية الحديثة، القائمة في منطقة صراعٍ شديد، بأقل الإمكانيات؛ والتي لا تزال تتبلور ملامحها، ومع ذلك باتت لها مكانة مهمة لدى القوى العالمية والعربية، واستطاعت أن تتصف بدبلوماسية خارجية تفوقت بها على غيرها من الدول، وبتحدٍ وصبرٍ متين، تفوقت في مجالات تنموية عديدة كالطب والتعليم وغيرها، ومع كل هذه الإيجابيات لايزال شبابنا ينظرون للتحديات التي تمر بها المملكة بحالة من الاستعلاء، دون أن يبادر الكثير منهم نحو الإصلاح والتنمية والتطوير، كما يكون استعدادهم نحو الاستماتة بالجدال لصالح أطراف لا تمثلهم.
لن نكون مثاليين بالحديث عن الخدمات التي تقدمها الدولة الأردنية، تحديداً في ظل هذه الظروف الاقتصادية المتعثرة، ولكن هذا لا يمثل مبرراً للانسلاخ عن الانتماء للدولة والذهاب نحو منح الولاء والانتماء لدول أخرى أو تنظيمات عابرة للجغرافيا ولا تعترف بمفهوم الوطن. وتكمن خطورة هذا المنح المجاني بأن يكون المواطن جندياً ضد بلده ومستقبله، من خلال الشك والتذمر وعدم الثقة ببلده. فماذا يريد العدو أكثر من ذلك؟
هناك كثير من الأحداث التي وقع فيها الأردن بفعل الانتماءات الخارجية، وتجاوزها بفضل الشرفاء القابضين على الجمر من أجل حفظ هذا التراب والعلم، وأتمنى أن يعي المواطن الأردني تحديداً جديّة وخطورة الوضع الحالي؛ وأن يتخلص من حالة الفصام التي يعيشها بين وطنه الحقيقي وبين ما يتمناه، وما يشعر بأنه موجود في الدول الأخرى، متناسياً أن القدَر الذي وضعه في دولة حديثة العمر، تمر بكل تلك التحديات التي تواجه المنطقة، يفرض عليه مسؤولية الانصهار في بوتقة الدولة، مع باقي أفرادها وعناصرها لينتج من أجل الأجيال القادمة، وليكون سبباً في أن يصبح الأردن هو الوطن الذي يتمناه من الخارج وليس العكس، فهذه النتيجة تكون باحترام القانون، الذي كان سوف يحترمه لو أنه في دولة أخرى، والتصرف بمسؤولية تجاه ممتلكات الدولة والمال العام، والحفاظ على أرواح المواطنين الآخرين وكراماتهم، بعدم استهتاره وتقصيره، وأيضاً عبر إنتاج الأفكار والبدء بريادة الاقتصاديات الخاصة والصغيرة، بدلاً من أن يرمي الحمل بأكمله على الدولة وينظر إليها من الأعلى، واهباً انتماءه لمن هم ليسوا أهلاً له، مُستنداً على قصة تاريخية أو رباط وهمي لا يمت للحاضر بصلة.
ليس هناك أكثر سذاجة من الذين يدعون رؤية الزعماء الذين يحبون في واجهة القمر، ولا أولئك الذين يريدون عودتنا تحت الاحتلال من جديد! ولا ينظرون إلى حقيقة أنهم في وطن يعاني الأمرين من أجل مستقبل أفضل.