أظهر حراك المعلمين الأزمة الاجتماعية العميقة التي تواجهنا؛ والتي لن تحلّ بمجرد اتفاق نقابة المعلمين مع الحكومة حتى لو كان هذا الاتفاق منسجما مع مطالب المعلمين، إنها متصلة بوعي الوجود لفئات اجتماعية أنشأت الرواية الأردنية الحديثة، والتراث الذي تملكه هذه الفئة؛ وأهمها المعلمون والتعليم.
ندرك بوضوح وبساطة أن الرواية الأردنية الحديثة تقوم على أربعة مكونات؛ الزراعة والمزارعون، والجيش والتعليم، وأما المكون الرابع فهو مزيج من الموظفين والتجار الوافدين إلى البلد أو من مواطنيه الذين كانوا في عزلة اجتماعية وفيزيائية مع الناس. وفي الرواية السياسية فقد رعت الدولة منذ نشأتها وحتى تسعينيات القرن العشرين إدارة وتنظيم الموارد والخدمات، وكان المزارعون وقراهم والمعلمون والجنود هم الخزان البشري والتنظيمي والفكري لتسيير الموارد والمؤسسات العامة؛ في حين ظل المكون الرابع في قلعته الأنيقة في عمان، يدير موارده ومؤسساته وعلاقاته الخاصة مع الأسواق والعالم الخارجي، ويحتكر مجموعة من الأعمال والعلاقات والمصادر المالية والسياسية، وينشئ أيضا رؤيته للعالم والسياسة المستقلة عن رؤية الناس وأفكارهم ومصالحهم، ولم يكن الربض الواسع الممتد حول القلعة مشغولا بالقلعة ولا محتاجا إليها؛ مكتفيا بذلك بالدولة والموارد والمؤسسات والحياة المتشكلة حولها أو بالمشاركة معها، وبالوساطة التي تديرها نخبة أو مجموعة من القيادات الاجتماعية والسياسية.
وعندما دخلت البلد كما العالم في مرحلة من الخصخصة والتحولات الاقتصادية والاجتماعية بدءا بالتسعينيات تكشفت مجموعة من الصدمات والحقائق التي لم يكن أحد من قبل مشغولا بها، أو لا يريد الالتفات إليها، فقد اكتشفنا أو تذكرنا ما نعرفه من قبل أن الكتلة الاجتماعية الكبرى فقدت معظم مواردها ومكوناتها الذاتية والمستقلة، ولم تعد قادرة اقتصاديا واجتماعيا على العمل وتنظيم نفسها من غير ذلك الحبل السري بينها وبين الدولة، فقد دمرت الزراعة وتحولت إلى قطاع اقتصادي واجتماعي هامشي بعدما كانت الإطار الاقتصادي والاجتماعي والتنظيمي أيضا للمواطنين جميعهم حتى الذين لم يكونوا يعملون في الزراعة من التجار والموظفين وأصحاب الحرف والمهن كما البدو ومريو المواشي.
لقد تحول المجتمع وفي سرعة إلى أرتال عشوائية من الموظفين ومقدمي الخدمات يعتمدون في كل حياتهم ومواردهم وعلاقاتهم على الدولة والأسواق والعلاقات المحيطة والمرتبطة بها أو في الدول العربية النفطية؛ الخليج وليبيا والجزائر والعراق، وفي ذلك فقد انتهت المدن والبلدات والقرى كمجتمعات مستقلة تنظم نفسها وتدير مواردها واحتياجاتها وأولوياتها كما تنتخب وتختار قياداتها الاجتماعية والسياسة وفق منظومة تفاعلها مع هذه الموارد والأولويات والعلاقات، والحال أنه لم يعد لدينا مجتمعات ولا قيادات ولا أطر اجتماعية وتنظيمية تعبر عن الناس وتعكس أولوياتهم ورؤيتهم ورسالتهم، .. لم يكن الأردنيون وهم يواجهون الخصخصة والتحولات سوى مجموعات من العمال لا يختلفون من وجهة نظر القادمين الجدد عن العمالة الوافدة وحتى السائبة، ولم تكن هذه العلاقة الجديدة محكومة باعتبارات اقتصادية وتجارية فقط، لكنها أيضا مشحونة بذاكرة اجتماعية راسخة وعميقة من النفور والاستخفاف المتبادل، وأسوأ من ذلك عدم الفهم المتبادل. ولم تكن القيادات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمهنية كما النواب وكبار والموظفين القادمين فيزيائيا من الربض المحيط بالقلعة تعكس تشكلات اجتماعية عميقة، لكنها قيادات ونخب جديدة لا علاقة لها بمدنها ومجتمعاتها وبلداتها، كانوا شركاء للأثرياء والقادمين الجدد وليسوا شركاء لمهنهم ومجتمعاتهم المفترض أنهم ينتمون إليها، كانوا في الواقع منتمين إلى ذواتهم لأنهم وببساطة أنشؤوا مواردهم وعلاقاتهم على نحو ذاتي مستقل عن النقابات والمدن والبلدات والمجتمعات.
هكذا فإن أزمة المعلم ليست أزمة المهني الذي يحاول أن يحسن حياته، أو يعزز مشاركته في الحياة العامة، ولم يكن التضامن مع المعلم تأييدا لمطالب مهنية أو فئوية، .. لكنها أزمة أربعة أخماس المواطنين الذين فقدوا كيانهم الاجتماعي ووعيهم بوجودهم ومشاركتهم في بلدهم ومعنى هذا الوجود والمشاركة، والذين يحاولون إعادة توزيع الموارد والعلاقات مع الخمس الذي يحتكر الموارد والفرص، والذي هبط على الإدارة العامة ليس كقادة سياسيين واجتماعيين لكن مثل مجموعة من الصيادين المزودين بأدوات وتقنيات متقدمة في الصيد.. والترفيه أيضا.
الغد