محمد عاكف ارصوي .. شاعر الاستقلال التركي
المهندس حسين منصور الحياري
08-09-2019 05:53 PM
ولد الشاعر محمد عاكف ارصوي عام 1873 في حي الفاتح المشهور بمدينة اسطنبول، وتلقى تعليمه الإبتدائي والثانوي بمدارس الحي، وحفظ القرآن وتعلم العربية والفارسية على أيدي آئمة مسجد الفاتح. اهتم بالأدب والشعر التركي منذ بداية شبابه، فكتب الشعر وهو طالب بالثانوية، ودرس الطب البيطري في الجامعة وعمل بعد تخرجه في وزارة الزراعة لعدة سنوات، إلا أن ميوله للشعر والأدب جعلته يترك مهنته ويعمل أستاذاً للأدب التركي في كلية دار الفنون ( جامعة اسطنبول فيما بعد ),كما درس في كلية دار الحكمة الاسلامية لعدة سنوات.
كان من أنصار الوحدة الإسلامية تحت راية الخلافة وأصدر عدة صحف كان من خلالها يعبر عن رأيه وأفكاره (منها الصراط المستقيم، وسبيل الرشاد، وسبيل النجاة )، وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى اشترك فيها كضابط في التشكيلات الخصوصية، وكلفته الدولة بمهام كثيرة داخل وخارج الدولة العثمانية .
وفي عام 1915 وعند وقوع معركة جنق قلعة المشهوره بالتاريخ التركي العثماني .كان في مهمة رسمية لدى أمير شمر ونجد الشمالي الأمير محمد بن رشيد في مدينة حائل، وسمع بأخبار المعركة وبالانتصارات التى حققتها القوات التركية، حيث منعت القوات العثمانية ,الجيش الإنجليزي من عبور مضيق الدردنيل والدخول إلى بحر مرمرة لاحتلال العاصمة اسطنبول، وأوقعت به الخسائر الفادحة فقتل أكثر من 150ألف من القوات الإنجليزية وحلفائها مما اضطرهم إلى الإنسحاب. واعتبرت هذه المعركة من المعارك الخالدة بالتاريخ التركي .
تفاعل عاكف مع هذه المعركة وكتب قصيدة طويلة تعتبر من أفضل ما كتب هو وما كتب الشعراء عنها، وما زال الشعب التركي يردد أبياتها حتى أن الرئيس أردوغان يكثر في خطاباته من ترديدها وخاصة البيت الذي يقول فيه عاكف:
( أي شهيد اوغلو شهيد استما بندان مقبر سانا كوجاغني اجمش دوريور بيقمبر)، وترجمته ( أيها الشهيد ابن الشهيد لا تطلب مني قبراً، فهذا النبي فاتح ذراعيه واقف ينتظرك) .
في أواخر عام 1917 أرسلته الدولة إلى النمسا حليفتها بالحرب مانع ألمانيا وعندما كان في فندقه بفينا العاصمة، سمعت بالليل أصوات الكنائس أجراس تقرع بشكل غير عادي, فنظرمن النافذة فرأى الناس تسير بالشوارع حاملين الشموع والفوانيس، فخرج إلى الشارع لإعتقاده أن الحرب قد انتهت وأن النمسا وحلفائها قد كسبوا الحرب، وعندما سأل أحدهم عن ذلك قالوا له ( أن القدس قد عادت لحكم الصليب وطرد الهلال منها، فالجنرال اللنبي الإنجليزي احتل القدس وطرد الأتراك الى خارجها)، فتعجب كثيراً كيف أنهم يحتفلون بإنتصار عدوهم بالحرب على حليفهم، وأيقن أن الروح الصليبية ما زالت تسري في عروق كافة الشعوب الأوربية .
دخل الحلفاء إلى العاصمة اسطنبول واحتلوها في أواخر عام 1918، كما احتلوا أجزاء كبيره من غرب تركيا وجنوب شرقها، مما أدى إلى استسلام الدولة العثمانية، واجبروهاعلى توقيع معاهدة سيلفر عام 1919 , حزن عاكف كثيراً على ما جرى ولم يستطع البقاء في العاصمة فخرج إلى أنقرة في عام 1920، وانضمم إلى قوات المقاومة الوطنية التي كانت تسعى إلى إخراج المعتدين من الأراضي التركية، وتجول في معظم مدن الأناضول التي لم يدخلها الإحتلال، حثا السكان على مقاومة الإحتلال بكل الوسائل المتاحة وكان له دور كبير في حرب الاستقلال.
انتخب عاكف عضوافي البرلمان الوطني الذي أنشأ في أنقرة عام 1920 نائباً عن مدينة بوردور, وبقي فيه حتى عام 1923.وعندما أرادت الحكومة عمل نشيد وطني للبلاد ووضعت جائزة 500 ليرة لأفضل نشيد يكتب، رفض عاكف الإشتراك بالمسابقة وعندما قدمت القصائد إلى رئيس اللجنة وكانت تزيد عن 700 قصيدة، لاحظ رئيس اللجنة بعد الإنتهاء من قراءة القصائد أن عاكف لم يشترك بها ( رئيس اللجنة كان وزير المعارف حمد الله صوفي وكان زميلاً لعاكف بالبرلمان ) ذهب إليه وسأله لماذا لم تشترك بالمسابقة، فأجاب لإنكم وضعتم جائزة لنشيد وطني للامة ,وأنا لا أكتب للجوائز بل أكتب للوطن، واشترط الغاء الجائزة قبل أن يكتب أي شىء ,وقبل الوزير شرطه ، فكتب قصيدة طويلة قام الوزير بإلقائها على أعضاء مجلس الشعب الذين أعجبوا بها كثيراً وصفقوا لها وقوفاً لأكثر من نصف ساعة، ومن يومها اعتبرت هذه القصيدة نشيد الإستقلال، وبعد الإستقلال سميت بالنشيد الوطني التركي ( أخذ منها أول ثمانية أبيات للنشيد الوطني)، ومازال الشعب التركي ينشد هذا النشيد الذي كتبه عاكف في كل المناسبات الرسمية والشعبية.وهذه بعض كلمات النشيد :
لا تخف لن تخمد الراية الحمراء في كبد السماء
قبل أن تخمد بأخر دار على ارض وطني
انها كوكب سيظل ساطعا فهي لامتي الغراء
لا تقطب حاجبك أرجوك يا أحلى هلال
ابتسم دعنا نرى أحرام ما بذلنا من دماء أم حلال
انها ملكي وملك شعبي لاجدال ولا مراء
الحق تعبد أمتى , والحق حق أمتى بالاستقلال .
وبعد أن تم اعتماد هذا النشيد رسمياً قال عاكف ( أرجو الله أن يكون هذا النشيد أخرنشيد وطني لاستقلال بلادي), ورفض أن يضعه في ديوانه الشهير صفحات قائلا ً( هذا ليس لي هذا لشعبي ).
اختلف عاكف كثيراً مع أتاتورك وخاصةً بعد أن قام بإلغاء الخلافة والسلطنة وأقام الجمهورية، واحتج على كل الإجراءات التي قام بها أتاتورك من تغيير حروف اللغة واللباس والقوانين التي تخالف الدين الإسلامي، وكان الخلاف عقائدي ومبدائي، فعاكف من أنصار الوحدة الإسلامية ومن الد اعداء القومية العلمانية التي نادى بها أتاتورك، وكان يرى بإمكانية الإصلاح في ظل الخلافة وحكم الدين .
أدى خلافه مع أتاتورك إلى عدم دخوله البرلمان لمرة إخرى واضطر في عام1925 إلى ترك تركيا والذهاب إلى مصر حيث عمل أستاذاً للأدب التركي في كلية الأداب بجامعة الملك فؤاد ( القاهرة حالياً )، وبقي بالقاهرة حتى آواخر عام 1935، اصيب بمرض شديد اضطره للعوده إلى تركيا لتلقى العلاج في اسطنبول (كان يعاني من أمراض الكلى). لم يعش طويلاً بعد عودته إلى تركيا حيث وفته المنية عام 1936 , ودفن بمقابر ادرنة كابي باسطنبول.
قامت الحكومات التركية الأخيرة بإعادة الإعتبار لعاكف , فسمت باسمه الكثير من الشوارع والميادين والجامعات في المدن التركية، ونقل رفاته إلى مقبرة الشهداء باسطنبول. وحولت المبنى الي توفى فيه الى متحف باسمه, وما زال محمد عاكف هو الأشهر بين الشعراء الأتراك في المئة سنة الماضية . رحمه الله