المشهد الذي نراه اليوم غريب ومحير، فالكل منشغل بتحقيق مصالحه الشخصية أو الطبقية ولا يهتم الناس لمعرفة الكثير عما يدور حولهم أو يحصل لغيرهم إلا بالقدر الذي يخدم مصالحهم الطبقية أو الفئة التي ينتمون لها.
النواب والأعيان والمعلمون والعاطلون عن العمل والمتقاعدون من بعض الاجهزة والمؤسسات وحملة درجات الدكتوراة المتعطلون وأصحاب سيارات التكسي وعمال الموانئ والعشائر وأهالي الموقوفين يشكون من الظلم ويدعون إلى إنصافهم. الجميع يتحرك تحت شعار “ما حك جلدك مثل ظفرك.. فتولى أنت جميع أمرك”
الحالة التي تمر بها البلاد غريبة ومقلقة ولم تصل لهذا المستوى منذ نشأة الدولة. قيم التعاطف والتكافل والإيثار التي نتحدث عنها تقلصت لدرجات غير مسبوقة.
الطريق الصحراوي يحصد عشرات الأرواح والنداءات تتوالى لإيجاد حلول تنظيمية مؤقتة والاستعجال في إنهاء العمل دون استجابة أو الخروج ببيان يشعر الناس بأن الحكومة مهتمة.
الباص السريع مزق الشوارع وخلق مئات الأزمات وعطل حياة الناس لأكثر من خمسة عشر عاما وما تزال الوعود تتجدد بأنه سينجز هنا ويتأخر هناك. عشرات المحلات التجارية تأثرت بالإغلاقات وفقد أصحابها مصادر دخلهم دون اكتراث أو تعويض.
النواب يجتمعون من أجل تقاعدهم ويدخلون في جدال مع الأعيان حول أحقيتهم من عدمها، والمعلمون يتوجهون إلى العاصمة من أجل المشاركة في الإضراب وإيصال صوتهم إلى الحكومة. الدرك يقطعون الطريق الصحراوي على الحافلات القادمة من الجنوب ووزير التربية يصرح حول الاستعداد للتعامل مع مطالب المعلمين .والآباء والأمهات قلقون على مستقبل أبنائهم. والجميع يتساءلون عن أسباب الأزمة ودواعي تفجرها في هذا التوقيت الحرج.
المدهش فيما يحصل أن البلاد تعمل على نظرية “كل من ايده اله” فالمواطن يطالب بتحسين المعيشة والعاطلون عن العمل يعتصمون للحصول على وظائف والنواب يقاتلون من أجل الضمان الاجتماعي لهم والحكومة مشغولة بضبط ماليتها والاعلام الحكومي يراجع الأرقام عله يجد انجازا يسوقه للجماهير المشككة . الحالة التي نعيشها لا ترضي عدوا ولا صديقا.
السنوات العشر الأخيرة من تاريخ الأردن غنية بالأحداث والتحولات. على كافة الصعد شهد الأردن تغيرات في شكل ونوعية العلاقة بين الدولة والمواطن وبين المواطن والمؤسسات . مفاهيم العمل والموقع العام والحقوق والعدالة واحترام القانون وأسس التقدم تغيرت هي الأخرى وبشكل دراماتيكي.
القيم التي كانت تحكم العمل والصورة الذهنية للمعلم ونظرة الطلاب والأهالي للمدرسة والدارسين تغيرت هي الاخرى وبمستويات يصعب قياسها. خلال السنوات القليلة الماضية نمت الثقافة المطلبية ونشطت النقابات والاتحادات وتوالدت الاعتصامات والاحتجاجات وضعف إيمان الناس بالقوانين والاحكام والقواعد التي حكمت سلوكهم ونظمت شؤونهم على مدار العقود والأعوام السابقة.
مع انطلاق شرارة الربيع العربي وتزايد الحديث عن الفساد باشرت الجمعيات والعشائر والجماعات والفرق المختلفة العمل على مراجعة اوضاعها وتطوير مطالب جديدة وإحياء المطالب والرغبات القديمة والتوجه نحو الحكومة ومؤسسات الدولة مطالبة بالاستجابة إليها ومهددة بالإضراب عن العمل وتعطيل المرافق وايقاف الخدمة التي تقدمها.
في وجه هذه الاعتصامات والاضرابات يجري التوافق على حلول تلبي بعض المطالب وتؤجل الاخرى إلى مستقبل الايام لتعاود الظهور عند اول منعطف أو انتخابات. حتى اليوم شهدت البلاد ومنذ مطلع العقد الحالي مئات الاعتصامات والاحتجاجات والتظاهرات المطالبة بالاصلاح السياسي والاقتصادي والداعية الى رفع الظلم وتطبيق العدالة.
في الأردن كان المعلم أحد أهم محركات التنمية والتقدم فقد أسهمت جهود وتضحيات المعلم في خفض مستوى الأمية ورفع جاهزية الإنسان الأردني لإحداث التغيير وبناء المؤسسات والتعاطي مع المنجزات الحضارية وامتدت آثار ذلك الى البلدان العربية المجاورة. في غمرة انشغالاتنا بالخصخصة والبزنس وريادة الأعمال جرى إهمال التعليم والمعلم فتقلص دخله وتدهورت مكانته وأصبح يعاني من اختلالات المكانة وتراجع الادوار والسعي للبحث عن اعمال وأدوار اخرى .
الميسورون في بلادنا أوجدوا مؤسسات خاصة لتعليم أبنائهم وتزويدهم بالمعارف والمهارات الملائمة لانتماءاتهم الطبقية مما خلق شرخا اضافيا واسهم في مزيد من التدهور للتعليم العام وأركان العملية . اليوم يتوجه إلى مدارس الأردن ما يزيد على مليوني طالب واكثر من مائة ألف معلم يعاني معظمهم من ضائقة مادية وإحساس بالتمييز عند مقارنة اوضاعهم بالآلاف من أقرانهم العاملين في مؤسسات وهيئات حكومية وخاصة تتيح لهم فرص التقدم رغم قلة المواهب والاستعدادات.
الغد