في المضافة التي تمثل في القرى الاردنية بيت الكرم, وعلى ذرى واحد من جبال الشمال, وتحديداً في قرية تبنه بمنطقة الكوره, ولد الشيخ كليب الشريدة سنة 1872 في بيت زعامة عشائرية, آلت إليها بأفعال الرجال وكرمهم ورجولتهم وشهامتهم ووطنيتهم, التي منحتهم زمام قيادة أبناء المنطقة من الفلاحين وأبناء القرى, الذين كانوا يراقبون بفرح تراخي قوى الدولة العثمانية التي حكمتهم بالحديد والنار, مشكلين مع قسوة التضاريس حكماً شبه ذاتي, وقد اغتنم الشيخ كليب الفرصة فأسس لنوع مختلف من الزعامة والحكم ، حيث أولى عنايتة للمضافة, فقوى نفوذها لملأ الفراغ الذي خلفه غياب الحكم المركزي، ولمواجهة تنامي قوى العشائر وإمارات الحكم المحلي, وكان هذا أول إنجازاته التي بنى عليها فيما بعد العديد من المواقف والإنجازات.
لم يسمح الفتى الذي فقد والده الشيخ يوسف الشريدة قبل أن يتجاوز عمره ست سنوات, لهذا الحدث الكبير أن يهز شخصيته التي بدأت تنبني في بيوت أخواله الذين استقبلوا شقيقتهم الأرملة في خربة الغزالة, واتخذ الطفل قراراً لايتخذه إلا من استوطنت نفوسهم العزيمة وقوة الإرادة من الكبار, مطوعا الغربة والألم وفقدان الأب, ليعتمد على نفسه وهو يضع أولى خطواته على درب الشيخة والزعامة, التي ستقوده ليكون حاكماً محلياً صاحب حكمة وبصيرة نافذة, وقد تمتع بصفات أهلته لذلك, فقد كان طيب النفس حسن الخلق ، تمتع بحب الناس ، واحترمه كل من عرفه ، وهو تقي وورع دائم العبادة.
كان يفكر بالإسم الذي منحته له والدته لتحارب به موت أبنائها, فجعلت من الإسم المستعار من الحيوانات تعويذة خاصة ، لتوقف موت أولادها وهم صغار ، وقرر أن الإسم الذي حماه طفلاً, سيكون عوناً له وهو يدخل صراعات وأحلاف مع القوى المحيطة, لتقوية الحكم من جهة، وحماية مصالح وأهالي الكورة, الذين يشكلون العمود الفقري لاستمرار شيختة وزعامته ومدها خارج حدود منطقته , وكان فخوراً بحب الناس له وولائهم وتقديرهم لما يقوم به لأجلهم.
حين فكر ببناء مركز للحكم كان تطوير المضافة نصب عينيه, فحولها إلى مؤسسة حكم ذات هيبة، جعل لها خدماً وحرساً وعمالاً يقومون على خدمة الضيوف والمحتاجين ورواد المضافة ، وقد تم تأمين ميزانية كافية من خلال مساهمة الفلاحين بما يشبه الضرائب، مقابل حمايتهم وصون ممتلكاتهم وتقديم العون عند الحاجة ، وتأمين حل مشاكلهم وتحصيل حقوقهم بشكل عادل ، وكان ذلك شكلاً من الحكم الذاتي الحقيقي, نشأ في غياب سلطة الدولة العثمانية, التي كانت تعاني من مصاعب السيطرة على بعض المناطق الداخلية، ولم تكن قادرة على مواجهة الزعامات المحلية المتنامية, آنذاك ولمواجهة ذلك الوضع, قررت الآستانه إنشاء مديرية ناحية الكورة, لتخلق نوعاً من الحكم المركزي الذي لم يرفضه الشيخ كليب ، لكنه بحكمة وقوة تمكن من الإحتفاظ بأهم صلاحياته ، ولم تجد المديرية الجديدة مناصاً من التعاون معه, والقبول بتدخلاته وإملاءاته المتواصلة, في سبيل تجنب الصدام معه ومع الأهالي الذين يدينون له بالولاء والمحبة, وجاء ذلك بعد تجربة مريرة للمديرية, التي حاولت استعمال الشدة, فسجنت الشيخ وابنه في الشام مركز ولاية سورية ، لكن الدولة تراجعت عن كل ذلك ، لأنها أدركت أن استقرار العشائر والمناطق التابعة لها, لا يكون إلا من خلال تعاون زعمائها.
آمن الشيخ كليب بالثورة العربية الكبرى فكراً وأهدافاً وغايات, وشارك في حفل تتويج الملك فيصل على سوريا، وتعبيراً عن مساهمتة العملية في دعم العرش الهاشمي في سوريه, قام بتجهيز قوة مكونة من 200 جندي بقيادة ابنه عبد الله للمشاركة في محاربة الفرنسيين وإخراجهم من بلاد الشام, لكن القوة التي غلبت الحق والشجاعة ( ولو إلى حين ) تمكنت من وأد الحلم العربي, وإنهاء المملكة العربية في سوريا الكبرى، وأنهت الحكم الفيصلي الذي كان الضامن لوحدة بلاد الشام, و شهدت المنطقة فراغاً في الحكم، فتشكلت حكومات محلية، في المناطق الواقعة خارج سيطرة الفرنسيين, ومنها حكومة دير يوسف التي أنشأها الشيخ كليب, في موازاة حكومة اربد التي ترأسها خلقي الشرايري ، وأعلن الولاء للأمير ( آنذاك ) عبد الله بن الحسين بعيد وصوله إلى عمان، وأعلن دعم الحكومة المركزية، لكنه رفض الإنضمام إلى حكومة اربد، بحسب التنظيمات الإدارية التي اتخذتها الحكومة, وطلب الشيخ من الأمير عبدالله أن تكون ناحية الكورة مرتبطة مباشرة بالحكومة المركزية في عمان, وعندما لم يُستجب طلبه, توترت العلاقة بينه وبين حكومة الإمارة, لدرجة وقوع صدامات مسلحة على مستويات مختلفة بين القوات النظامية للإمارة وبين المسلحين من رجال الشيخ كليب الشريدة، ولم تلبث الأمور أن تطورت وتفاقمت, حين قاد الشيخ كليب ما يطلق عليه المؤرِّخون بحسب أهوائهم صفة الثورة مرة ، وأخرى التمرد، وثالثة صفة العصيان, وبات الشيخ طريداً للحكومة, التي أرسلت قوة عسكرية بقيادة الضابط فؤاد سليم للقبض عليه، ولم تهدأ الأمور إلا عندما زار الأمير عبدالله قرية سوف, حين ورد عليه الشيخ في بادرة حسن نيَّة قابلها الأمير بالعفو عنه وعن جميع الثائرين على الحكومة المركزية من أهل الكورة.
ولكن العلاقة بين عمان, العاصمة الجديدة, وبين الشيخ كليب توترت ثانية, وانتهت إلى مصادمات عسكرية بعد أن بدأت حكومة علي رضا الركابي بمضايقة الشيخ, وكان هدف الركابي استفزازه , لاستدراجه إلى مواجهة عسكرية يُعيد بها الهيبة إلى الحكومة المركزية, بعد أن تراخت هيبتها إثر ثورة أو عصيان أو تمرد الكورة الأول, وقد بلغ اهتمام الركابي بزعزعة مكانة الشيخ كليب, أنه انتقل إلى إربد ليشرف بنفسه على الحملة العسكرية ضده, والتي انتهت بلجوء الشيخ كليب وابنه عبد الله وابن أخيه رشيد الجروان إلى مضارب الشيخ حديثة الخريشة في الموقر, وبعد وساطات ومفاوضات سلم الشيخ كليب ومن معه أنفسهم للحكومة, بعد أن أخذ الشيخ حديثة وعداً من الأمير عبد الله, بعدم إعدام أحد منهم, وتمَّت محاكمتهم في محكمة عسكرية, وحكم على الشيخ كليب بالإعدام، وحكم على إبنه عبدالله الذي أصبح وزيراً فيما بعد, وعلى ابن أخيه رشيد جروان بالسجن خمسة عشر عاماً, ولكن تلك الأحكام سقطت بإصدار الأمير عبد الله عفواً عاماً عام 1023 بمناسبة اعتراف بريطانيا باستقلال إمارة شرق الأردن.
كل هذه الاحداث لم تؤثر في ولاء الشيخ كليب للامير الهاشمي, فعادت الأمور إلى مجاريها وتطورت لتصبح الأمثل، ونمت علاقة خاصة بين الأمير عبد الله وبينه, وأصبح الشيخ أحد المقربين منه، ومرافقاً له في كثير من المناسبات والزيارات ، وقد قام الأمير عبد الله بزيارة الكورة عدة مرات, وتناول الطعام في المضافة واستقبل أهل المنطقة ، ومع الأيام صار للشيخ حظوة خاصة لدى الأمير ، وقد امتدت هذه الحظوة لتشمل عبد الله ولد كليب الذي أصبح ملازماً لبلاط الأمير.
ومرة ثانية ومن قراءة تاريخ الرجال الكبار في بلدنا نتبين عمق العلاقة التي تربط شرق النهر بغربه, إذ يروى أنه في 13 أيار عام 1938، طوّق الجيش الإنجليزي قرية تمرة في فلسطين، بهدف اعتقال مناضل كبير من بلدة يعبد,يدعى الشيخ عارف، وباشر الجنود الإنجليز بتفتيش القرية، والقبض على كل من يمتلك سلاحاً... في تلك القرية كان مدحت ذياب يمتلك بندقية وبضع رصاصات مدفونة في حقل مجاور, وبينما كان يحاول إخراج الرصاصات، فاجأه الجنود وألقوا القبض عليه، دون أن يكتشفوا حيازته بندقية أو رصاصات, وقد حاول الرجل خلال احتجازه دفن ما بحوزته من الرصاص، إلا أن صوتها كشف سره، واقتيد إلى محكمة عسكرية، سرعان ما حكمت عليه بالإعدام, وقد تذكر أحد سكان القرية العلاقة الخاصة التي تربط الشيخ جاد مصطفى ذياب، وهو عم لمدحت بالشيخ كليب, وفوراً توجه وفد برئاسة الشيخ إلى دير أبي سعيد، ليشرحوا مطلبهم للشيخ كليب، الذي اصطحبهم من فوره إلى ديوان الأمير عبد الله، الذي فاجأه الشيخ كليب لحظة دخوله القاعة، بتقديم صديقه الشيخ جاد إليه قائلا (هذا أخوي يا سمو الأمير)، فرد عليه الأمير (لا أعلم لك أخوة )، فأجابه كليب ( هذا أخوي من الديرة الغربية- يقصد فلسطين، وعنده مناشدة وطلب عندك يا سمو الأمير)
وعد الأمير عبدالله بإطلاق سراح مدحت ذياب، وكتب خطاباً إلى المندوب السامي في فلسطين، شرح فيه ملابسات اعتقال الرجل ، طالباً تخفيف العقوبة وفعلاً.. خففت المحكمة العسكرية البريطانية حكم الإعدام عن مدحت إلى السجن المؤبد، ليطلق سراحه بعد نحو عامين، مضت الأيام ولم يتسن لمدحت شكر الشيخ كليب على إنقاذ حياته، وتوالت الأحداث في المنطقة، من الحرب العالمية الثانية إلى هجمات عصابات الصهاينة، وصولاً إلى احتلال فلسطين في العام 1948 وتهجير العائلة إلى لبنان. وبقي الجميل في عنق مدحت، الذي قص الحكاية على ابنه عدنان في العام 1972 وأطلعه على الرسالة الأميرية إلى المندوب السامي، ليرث عدنان الأمانة عن والده بعد وفاته، ويتتبع أخبار عائلة الشريدة. ثم ليقوم مع وفد من وجهاء منطقته بزيارة عائلة الشريدة ليقدموا شكرهم على الموقف النبيل للشيخ كليب ولو بأثر رجعي.