لا أظن أن بلدا في العالم اهتمت بالدخان وأعطته مساحات واسعه في إعلامها وسياساتها وأحاديث اهلها كما فعلت الأردن. في السنة الاخيرة يصعب أن يجري حديث في السياسة والاقتصاد والفساد وترهل الإدارة والأمن دون المرور على قضايا الدخان. فقد استولى الموضوع على اهتمام الجميع. اضافة إلى القضية الكبرى التي أحيلت إلى القضاء يجري اليوم الحديث عن أثر التهريب على الموازنة وعلاقة الدخان بأحداث الرمثا وتأثير المهربين أو الحيتان على صناعة القرار، وغيرها من القضايا المقلقة للمواطن والمراقب والمسؤول.
حتى أوائل السبعينيات من القرن الماضي كان التبغ أحد أهم المحاصيل التي يقبل الأردنيون على زراعتها. في سهول حوران ومادبا والسلط وعمان كانت زراعة التبغ مهارات يجيدها الكثير من الفلاحين ممن لا يجدون صعوبة في جني الأوراق وتجفيفها وتوريدها إلى تجار التبغ الذين يشاركونهم ويرشدونهم إلى أساليب التجفيف والتخزين والتحميل حفاظا على قوام الأوراق وضمان وصولها إلى المصانع بالحالة التي تسهل التعامل معها. العديد من مصانع الدخان المحلية تعتمد على المنتج المحلي والبعض منه يصدر إلى بلدان اخرى. لا اعرف اسباب تقلص واختفاء زراعة التبغ في حقولنا. حتى مدخنو الهيشة توقفوا عن زراعة حواكيرهم بما كانوا ينتجونه لاستهلاكهم السنوي.
التصريح الذي أدلى به مدير عام الجمارك الأردنية حول تهريب الدخان من وإلى الأردن تصريح محير ويحتاج إلى المزيد من البيانات والمعلومات لتوضيح المعادلة. ما قاله المدير يثير الاسئلة ويفتح باب التكهنات خصوصا وان ملف الدخان وإنتاجه والتجارة فيه ما يزال غامضا بالرغم من فتح الملف وإحالة بعض المنتجين والاطراف المتورطة فيه إلى القضاء.
حتى اليوم لا أحد يعرف بدقة الكميات المنتجة من الدخان ولا الأنواع التي أنتجتها وتنتجها المصانع المرخصة والمناطق الحرة. حديث المدير حول وجود أدلة على أن الدخان المهرب إلى البلاد إنتاج أردني جرى تهريبه وإعادة تهريبه إلى الأردن يثير اسئلة حول رصد كميات الانتاج والجهات التي يصدر لها الانتاج وآليات التسعير للمستهلك المحلي والفرق في الأسعار بين المنتج الموجه للسوق الأردني والأسواق الخارجية ودوافع وعوائد التهريب إلى الخارج وجدوى اعادة المنتج أردني المنشأ إلى السوق الأردني.
في العالم يتحدث الناس عن الدخان بصفته مضرا بالصحة وعن اهمية تجنب التدخين في الاماكن العامة. وفي الأردن لا نزال منشغلين بإنتاج الدخان في مصانع غير مرخصة وشبكات الفساد التي تحيط بمصنعي الدخان والقائمين على التهريب. الحكومة تُضمّن تصريحاتها فقرات حول أثر السيجارة الالكترونية على ايرادات الخزينة ويبرر البعض انخفاض ما تحصله الدولة بأسباب لها علاقة بالدخان.
في كل مرة تخرج مثل هذه التصريحات أشعر بقصور وضعف التدابير التي تتخذ من قبل المسؤولين لبناء اقتصاد وطني قابل للنمو. فالجميع يفكر بعقلية البقالة الصغيرة التي تجري حساباتها على عمليات البيع والرسوم التي قد يتم جنيها من النشاطات التي لاعلاقة لها بالإنتاج.
من غير المعقول ان ننشغل بعدد علب السجائر وجداول الضرب التي تعطينا نصيب الخزينة من البيع والشراء. إجراءات الحكومة وأجهزتها لا تقف عند الرقابة والضبط والاعلان. فالسياسات التحفيزية للاقتصاد وتشجيع الانتاج وبناء الثقة وايجاد قنوات مشروعة للكسب اهم بكثير من تحولنا إلى مفتشين ومراقبين على ملايين الجياع.
الغد