القدس :اقامة خالدة في المخيال الشعبي وحنين صاغته السماء
31-10-2009 08:14 PM
صاغت القدس المكان والمكانة عبر الزمن شخصية غير محايدة أو جليدية في خياراتها، فكانت وما تزال في الوجدان الشعبي مليئة بإسقاطات وإحالات تثير الأسى وتكثفه، بينما هي تغوص في أسر احتلال، يدمي روحها في تناقضه معها عضويا وبنيويا.
بصيرورتها مأوى افتراضيا لروح العربي تعملقت القدس وغدت مدينة لمحمولاته النفسية والاسطورية والدينية، وبغناها المكاني والروحي صارت مدينة الأوابد موضوعا أثيرا للشعر والقصيد، حتى غدت مكانا طوباويا في فردوسه الروحي المحتشد بذاكرة العرب وتاريخهم.
عبر الزمن كانت القدس موثوقة الوصل بفعل مقاوم يشكله حاضن مجتمعي في مواجهته لكل أشكال التحدي والعدوان، نجح حينا وأخفق أحيانا لأسباب في مقدمها غياب التكافؤ في تمظهراته العسكرية والسياسية والحضارية، لكن ما هو مستقر يؤكد أن الناتج الميداني على الرغم من التكلفة الباهظة في فضاءات المواجهة حول القدس لا يعد مؤشرا حقيقيا على نجاح أو إخفاق، فهما ثنائية لا تتبدى في مديات قريبة بسبب طبيعة المواجهة وتجذر مكونات الصراع وتعدد أشكاله ومستوياته. ولعل دينامية الفعل الفلسطيني والمقدسي في الصلب منه تستند الى قدرتها في فكفكة بنى الإحباط والتردد استنادا الى طبيعة الاحتلال وفعله في اقتلاع فلسطين من فلسطين، وقتل فلسطينية الفلسطيني، وهو ما أخفقت فيه اسرائيل وإسنادها الدولي منذ تفجر الصراع العربي الصهيوني.
وفي واقعهم البائس لم يعرف العرب قيمة الأثر الذي يخلفه عدوان الصهيونية لاستغلاله في نزع الهالة عن صورة اسرائيل الغريبة عن المنطقة، والتي يشكل وجودها اعتداء على الحق الفلسطيني والعربي الإنساني، فدخلوا في دوامة الاعترافات والتنازلات التي لا تعرف مستقرا سوى بنفي الفلسطيني عن فلسطين، وهو ما تنشده الصهيونية من شرطها الاعتراف بيهودية كيانها.
أما الصهيونية المسنودة باليهودية العالمية فقد أولت الأثر قيمة استثنائية فتسنى لهم بلورة مخيال غربي بل وعالمي مناصر ومتبن لكيانهم وحاضن لعدوانيته، فأعدوا سيناريو محرقة أوشفيتز حتى إن حاخامات انبروا الى بلورة لاهوت وثيولوجيا ما بعد المحرقة، التي لم تتسع لها الكتابة الأدبية وترميزاتها لتصل الى الموسيقى والسينما لصياغة الوجدان الثقافي الغربي والعالمي.
وبينما يفشل العرب في تجشم عناء التفكير والسعي لبلورة مخيال ووجدان عالمي مساند لقضاياهم، تمتطي الصهيونية محرقتها كحصان طروادة، في إشاعة وعي زائف لدى الغرب يجرم السكوت على المحرقة ويجعل الدعم المطلق لإسرائيل أيقونة خالدة في السياسة والأدب الغربيين.
ولعل الفعل الثقافي العربي في تجليات مقاومته للغزوة الصهيونية مدعو لابتكار يحدث اختراقا ثقافيا عالميا كنهه تعرية الأيقونة الصهيونية حول فلسطين باعتبارها “اسرائيل”.
في اقتفاء أثر دان براون في رواية “شيفرة دافنشي” التي تصدت لموضوع إنسانية المسيح، استنادا إلى جدارية دي فانشي، تجسد العشاء الأخير، فدفع براون في أن اللوحة تواري شيفرة سرية، تضمر أن المسيح كان زوجا لمريم المجدلية، إضافة الى أن براون ذهب بعيدا في تقديم مزيد من الأدلة على فرضياته الخطيرة على لوحة دي فانشي، فعاد مثلا الى كثير من مخطوطات القرن التاسع الميلادي، خصوصا تلك المتعلقة بمؤسسات سرية، ليستنتج أن مريم المجدلية فرت إلى فرنسا بعد صلب المسيح، وظلت تحافظ على سر الكأس الذي يرمز إلى نسل المسيح، الذي ابتدأ من ابنته سارة!، حسب براون.
بخدشه أُصول المسيحية تجاوز براون تابوهات إيمانية عدها العقائديون الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، مسّاً جوهريا بـ”ألوهية المسيح” أو ما يعرف بـ “دنس الزواج”، وبتحريكها المياه الراكدة فجرت رواية “شيفرة دافنشي” مخيالا نخبويا استدعته من غياهب التاريخ، ما أحدث ردود فعل عنيفة أكدت تداعياتها على قوة التأثير الذي أحدثته الرواية في تمزيق منظومة متكاملة من القيم الروحية المستقرة في الذاكرة الجمعية للملايين.
لن يرصد أوجاع العرب سوى العرب، ولن نرى فلسطين والقدس مجسدتين في صميم هذا الوجع إلا بإبداع عربي يحفظ المخيال والذاكرة والملامح وتعرجات الروح.
ترى ماذا لو كانت النكبة الفلسطينية تجري على أرض أخرى؟! إذن سيأتي الرد في استدعاء أدب جديد وإثارة أسئلة تزعزع مستقر المياه الراكدة منذ قرون.
ليس مطلوبا استدرار مزيد من الدموع والبكاء على الأطلال واجترار الموت أو الحديث بضجيج عال عن الانتقام.
لن تتحرر القدس وفلسطين سوى بانتزاع العربي لحقه الداخلي ليمكنه محاسبة اسرائيل وطردها من الجغرافيا. ولن تتحرر بلادنا إلا ساعة نصبح مواطنين أسياداً فيها، ننتج ثقافة تهدم الحطام الذي نعيش، وتبني إسهاما في الحضارة الإنسانية التي نعيش على ضفافها منذ قرون.
يشدد اليهود هجمتهم على القدس في هذه المرحلة لاقتسام الأقصى قبل هدمه، وهو الذي اعتبره المؤرخ بوركهارت، عملا خارقا في دولة الإسلام بعد قرن من ظهورها، متوقفا إزاء الكمال والإتقان الفني المعماري للأقصى وقبة الصخرة، التي عدها المعماريون عبر التاريخ حدا لكمال المعمار، لتصبح رمزاً إسلامياً بمعان قُدسية رسَّخت أسس الفكر المعماري الإسلامي، وأُنموذجا في العمارة الّلاحقة.
تدرك اسرائيل وهي تنفذ مخططها بإفراغ المدينة المقدسة من ناسها وأهلها، أن المقدسي يرتبط بوثاق خاص مع مدينته في رمزيتها ومنظومة فراغها الداخلي والخارجي وعلاقاته اليومية، ما شكل ثقافة مقدسية جمعية راسخة وقادرة على صد الثقافة المعادية لا بل واحتوائها. وتعمل اسرائيل بلا كلل على تشويه القدس ومسخ خصوصيتها لتغدو عديمة الملامح والأبعاد.
muleih@hotmail.com