في التاريخ التحولات الكبرى قامت على مفاعيل الهجرة. فلو قرأنا التاريخ الانساني من زوايا الهجرة لاكتشفنا علاقات مركزية ومحورية بين الهجرة والحركة السياسية والاجتماعية. وتغييرات دراماتيكية للواقع، وما يقابل ذلك من هجرات لعقول فاعلة ومناضلة.
في سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فالهجرة من مكة الى المدينة كانت حدثا مركزيا ومفصليا في تاريخ الدعوة الاسلامية وبناء الدولة على شقيها. سرديات الهجرة في تاريخ الثورات تعبر عن حكايات مقابلة لفكرة النهضة والتحرر والتغيير، واصطلاحات أخرى تتعلق بوثبات التجديد والتقدم والتطور.
الهجرة بالمعنى الانساني سيرة اغتراب نفسي وجغرافي «مكاني»، نقل لمركزية الأحداث من بلاد الى أخرى مجاورة أو بعيدة. والامثلة في التاريخ كثيرة من الثورة الفرنسية ضد الالمان، والتي لا يمكن سرد روايتها التاريخية دون الاشارة الى العقول الفرنسية المهاجرة التي قادت ووجهت الثورة من لندن، وكذلك الثورة الجزائرية التي اتخذ احرارها من القاهرة مركزا لنضالهم.
وما لا يمكن اغفاله أن ثنائية الثورة والهجرة تطرح في التاريخ الإنساني سؤالا إشكاليا. وثمة تقاطعات مع الواقع العربي الراهن، وما يولد من اسئلة لا متناهية عما يجري من حركة واسعة للهجرة العربية وبلدان الجنوب باتجاه الغرب.
الهجرة تعيد النظر على مدار محطات متعاقبة من نضالات التحول والنهوض السياسي والحضاري والعلمي بالكثير من حضارات العالم. وهي تكتسي باهمية تاريخية بنيوية في ولادة الثورات وعلاقتها بالجغرافيا وتكوين الثوار بمحمول ايدولوجي وعقائدي وطني، فهل كان يمكن لثورات مركزية في التاريخ أن تقع لولا الهجرة؟
وثمة تأويل مختلف للهجرة في سياقها الانساني العام، فهي ليست حالة هروب، بل بحث عن منفذ للانطلاق نحو العودة، وهذا بالمعني السياسي والاجتماعي، فكيف يفسر إذن دافع هجرة محمد صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة؟ ومن قبلها هجرته الى الطائف والحبشة، وهجرة سيدنا نوح من بلاده، وما قد دفع موسى للخروج من أرض مصر، وما قد أصاب أهل الكهف ودفعهم للهجرة من قريتهم، وغيرها من حكايا الهجرة في التاريخ الانساني.
في استقراء التاريخ الاسلامي، فانها شكلت واحدا من محاور التحول المركزي في تاريخ الجزيرة العربية، وتوقف عندها باحثون عرب ومستشرقون، وحاولوا قراءة الهجرة بما أصاب بلاد العرب من تحول سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي.. فماذا لو أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يهاجر؟
الدستور