إلى روح اللواء صابر المهايره، فارس الحدّ ورجل المدفع الحاذق
عاد، مثل كل فتية الجبال، الذين حملوا تيجان الجيش على رؤوسهم وقالوا سنحمي الوطن؛ متعباً من حراسة الحدود، من نثر الأمنيات على السفوح، من اعتلاء ظهر دبابة وتوضيب أهداف مدفع، من اليقظة مع الفلق قبل أن تضيء الميادين شمسُ الصباح.
عاد مثل كلّ الطيبين الذين لا يمكثوا في الأرض طويلا؛ لنسوغ أسلافه في التلال التي تعانق الكروم وتكتنف الزيتون، لأول الصفوف وأول الحروف وأول الكلام، في المدارس التي منحت الوطن جندا وفرسانا ومعلمين وشهداء، آب مظفّراً مكلّلاً بالمودة والمروءة، حتى إذا قرّت عيناه بالأفق وتَوَسَّمَ في أعالي الأكمات نشيد جدوده في الحرية والموقف، رأى أن يقرأ على الفتية الذين سبقوه في أعالي فلسطين، قصائد عن الشهادة والموقف والحياة.
لم يُطل الغيبة، كان في شوق جامح للتراب الذي يأوي إلى حُجْره الزيتون، فغفا قريباً من مقام جابر الأنصاري، ليس بعيداً عن الحارث بن عمير ولا عن فروة الجذامي، شهداء الفتح والعقيدة.
تغيب اليوم عن الطفيلة إحدى شموسها وأجمل أقمارها، يظعن ابو ليث راحلا جميلاً ويترك لنا مضغ ذكرياته الجميلة، يوم أن كانت ذراعاه كنفاً لطفل وعجوز على الحدود، وجبهته السمراء ظلاً للاجىء وكتفاه اللتان نشأتا على خبز القمح والشعير، موطناً للمروءة وقاعدة الجود النديّة.
يمعن قائد حرس الحدود وضابط المدفعية الحاذق في الغياب، ونمعن في الحزن وفي الحديث عن ابن الطفيلة وابن الوطن، ذاك الذي هتف أن لا يؤتى الحدّ من قبله، وأوفى بالقسم. يفتقدك الجيش والميدان وتفتقدك المهنية والحرفية، لكن عزاؤنا في ثاوٍ تعزي به العلا، صمته الجميل وذكره النبيل، وإرثه الجميل، ذاك الذي نراه في كل الفتية السمر الجباه والسواعد فرسان الجيش والوطن الذين يدرءون عن البلاد شرور العاديات وينهضون بتنميتها ويحملون السلاح في وجه المارقين ...
في الطريق للطفيلة، لواجب العزاء بالراحل الكريم، وبين يدي زيارتها كل مرّة أعُرّج على المدينة وأقرأ في التاريخ أنها كانت جزءاً من مملكة أدوم، واسمها توفيلوس قبل أن يحتلها الأنباط ليحكمها فيما بعد الغساسنة تحت سلطة روما. ثم تكون بعد ذلك في ظلال الحضارة الاسلامية، وعلى مرّ الحضارات المتعاقبة، بقيت الطفيلة رقما صعبا، وواظبت على إنتاج الفتية والجنود والمعلمين، وفي تاريخ الوطن الحديث، كانت في منتصف حروب الثورة العربية الكبرى، وفيها خرجت أول مسيرات التنديد بوعد بلفور، وعلى امتداد تاريخها كان منها شهداء في فلسطين وفي القدس، على اسوارها وفي ساحاتها.
أعرّج على القلعة وقد قضيت في أكنافها زمنا ليس يسير، وعلى الجهير والعنصر، عينا الماء اللتان تترقرقا مروءة وحزم، وفي كل طلّة على تلالها، وكل تسكّع في أزقتها وحاراتها، ما زلت أرى الكروم تنتج عنبا حلوا لذيذا، وأقرأ في مدارسها المنتصبة مثل القلاع، حكايات البناة وأهازيج المساءات وتعاليلها بدأ من سوقها القديم وغروبا مع مسير القمر نحو وادي السرّيط، وأقرأ حاجة الفتية فيها والكهول لتنمية مستدامة، واستثمارٍ في ثرواتها ودعمٍ لجامعتها وهي بوابتها الجميلة في الشمال، في العيص قريبا من ارجوم النصر وكركا ومجادل أرض حد الدقيق، المعركة الخالدة.