اشكالية المناهج التي نريد!؟
فيصل تايه
23-08-2019 01:57 AM
عندما استطاع الروس الوصول لأول مرة إلى سطح القمر في بداية ستينيات القرن الماضي ، جن جنون الأمريكان على هذا السبق النوعي ، ولم يكتف الأمريكان بالرضوخ والاستسلام ، بل قاموا بتقييم المعطيات على أرض الواقع , لمعرفة مكامن الخل وجوانب القصور، لم يكن النظام التعليمي بمنأى عن الاتهامات ، ليتم هيكلة المناهج التعليمية على أسس حديثة تواكب الانفجار المعلوماتي ، ولم تمض سوى سنوات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ، إلا وقد حققت الولايات المتحدة رحلتها الأولى إلى الفضاء ، بل وتجاوزت قدراتها الفضائية التجربة الروسية بمراحل .
أما نحن فلنعلم جيداً أن مستقبل الأردن مرتبط بالإنسان الذي هو ثروتنا الحقيقية ، الذي يرتبط مستقبله أيضا بالنهضة التعليمية والثقافية والفكرية ، فنحن لا نريد جيلاً يقرأ ويكتب فقط ، بل نريد جيلاً يخترع ويبتكر ويبدع ، وصدق أحد الرواد حين قال : زرنا بعض المدارس فوجدنا نظاماً وانضباطاً ، ولم نجد علماً ولا تربية ولا قيماً ، هذا هو حال معظم مدارسنا اليوم ، عندما نزور بعض تلك المدارس نجد بعضها في منتهى الانضباط والنظام ظاهرياً ، ولكن عندما ندخل صفوفها ونلتقي مع طلابها بالمناقشة والحوار والمساءلة في أمور المناهج الدراسية نصطدم بواقع مرير، ونصاب بصدمة تربوية قاتلة بسبب ركاكة وهشاشة المعلومات ، وضعف وتدني المستويات ، وللأسف الشديد فان معظم مدارسنا او الإدارات المدرسية -إن صح التعبير- لا تدرك مهامها ، وطبيعة أهدافها .
اية مناهج نريد ؟ الثابت بالفعل أن العقل الحديث يحتاج إلى مناهج ذات آفاق علمية وعقلانية تشكل وعياً حراً تلبي متطلبات الألفية ، مناهج بمضامين أشمل ، مركزة للارتقاء بالحس التنويري ، كما تتحلّى بالجرأة في مجابهة التخلف والرجعية دون أية مهادنة تذكر ، لذلك يجب ان نقر في المقام الأول باهمية استيعاب أن تحضن مناهجنا وتبرز مختلف قضايا الدمقرطة والمدنية والمواطنة والإبداع والتفكير العلمي بشكل أعمق ، مناهج تصنع القطيعة اللائقة والمنتظرة مع النظام المعرفي القديم ، مناهج تنتفض ضد الأفكار الهدامة والطائفيات والخرافات والخزعبلات ، مناهج مستقلّة عن نمط التفكير القائم شديد الرثاثة والرتابة ، مناهج نعتز بها فعلاً وتنحاز إلى الإنسان والعقل ، مناهج لا تفضي بنا إلى حس القطيع التربوي الحاصل منذ عقود ، مناهج لا تقوم بتسييس الدين أبداً وتحترم التعدُّد والتنوّع الوطني والوسطية بكل اعتبارات التاريخ وتعتز بديننا الإسلامي الحنيف ، مناهج بنمط تنموي تماماً ، مناهج بلا تسطيح ثقافي .
يجب أن تخرج مناهجنا الدراسية من النمطية التقليدية ، وتتجه نحو تنوع محتوى المهارات والقيم ودلالتها ، وتتعلق بمخرجات الجيل الفكرية التي تأخذ بعين الاعتبار مختلف التغييرات الحاصلة في بنية الفرد الاجتماعية والسياسية والدينية ، بل يجب ان تتعلق بالتربية كمجال إنساني مفروض وغير قابل للتحول إلى جانب عملية تعليمية مشوبة بالمتغيرات ومتصلة ومتوافقة مع أحداث المشهد الاجتماعي بكل ما يطرأ عليه من مستجدات ثقافية مقرونة بالقيم الأخلاقية وموائمة للفطرة الدينية التي تميز مجتمعنا عن سواه من المجتمعات متعددة العقائد ، وتقوم بتعليم أبنائنا قيم التعايش وتغرس فيهم وعيهم أنّ قيمتهم لا تتحدّدُ بجنسهم وألوانهم ولا بمستوياتهم الاجتماعية ، وإنما تتحدد بأخلاقهم وتواضعهم وتعاونهم أي بقيمهم الإنسانية ، كأفكار نابضةً بالحياة تجسد على أرض الواقع ، وصولاً إلى النتيجة المنتظرة لمثل هذه الرسالة والتي ستؤدّي إلى بناء نفوس تحترمُ بعضها بعضاً وتُحبّ بعضها وان اختلفت وجهات نظرها ، إذ قد تعلمهم مبدأً هاماًّ في حياتهم . وهو إن الاختلاف في الرأي لا يُفسدُ للودّ قضيّة .
إننا بحاجة إلى مناهج دراسية تحقيق الأهداف التي تقودنا إلى تعزيز تطوير التعليم الذي يقتضي تطبيق أساليب التعليم الجيد، وشحذ إحساس الطلبة بالمسؤولية ، وتنمية روح الابتكار لديهم ، وتمكينهم من حل المشكلات ، وهذا يتطلب بذل جهود كبيرة لتدريب وتأهيل المعلمين الذين يجب أن يتصفون بالحماسة ، والكفاءة العالية ، والقيم الراقية ، وكذلك فان المناهج الجديدة يجب أن تضع سياسات تؤسس لثقافة جديدة تدعم التعليم المهني بما يضمن الاستفادة من طاقات الشباب في بناء الوطن ، والتركيز على نوعية التعليم لإكساب الطلبة مهارات اقتصاد المعرفة التي تشمل القدرة على التكيف مع ظروف الحياة المختلفة والمعقدة ، واكتساب مهارات العمل ضمن فريق ، والقدرة على التفكير الناقد ، والإصرار والتفاؤل ، وهذا لن يتحقق إلا بمزيد من التعليم ، والتعليم الجيد.
وأخيرا وان أطلت .. فإن الإصلاح المرجو في المناهج الدراسية هو تجويد التعليم لضمان تنشئة المزيد من المواهب ، وهذا يقتضي مشاركة جميع المؤسسات الاجتماعية ، كما يقتضي العمل بروح عالية من المسؤولية حتى يتسنى للطلبة النمو بطريقة شاملة ، فمسؤولية التعليم لا تقف عند وزارة التربية والتعليم فحسب بل إن للدولة بكافة مؤسساتها من إعلام وثقافة وأوقاف وإرشاد وحتى العدل وكل رجالها العلماء وقادة الرأي والفكر والمثقفين ومنظمات المجتمع المدني الكثيرة العدد والعدة التي يجب أن تكون مجندة لكل طاقاتها وأن تحشد كل إمكاناتها لغرس القيم الوطنية والأخلاقية والإنسانية ، ولهذا جاء إنشاء المركز الوطني للمناهج الذي يحوي كل الجهات ذات العلاقة لتكون المسؤولية على ذوي الاختصاص ، وما سبق وتحدثت عنه اعلاه بخصوص رؤيتنا الحضارية لمناهج عصرية أجده في فكر ومنهجية عمل معالي وزير التربية والتعليم الدكتور عمر الرزاز، الذي يطمئننا بان جميع الكتب المدرسية سيتم تطويرها من قبل المركز وليتحمل الجميع مسؤولياته ، وسيتم أيضا مراجعته تلك المناهج من قبل مجلس التربية والتعليم في الوزارة ولن يتم اعتمادها إلا بقرار من المجلس ، تماشيا مع قانون التربية والتعليم رقم 3 لسنة 1994 وكذلك مراجعة وتطوير الإطار العام للمناهج لجميع مراحل التعليم المدرسي ، بما في ذلك النتاجات التعليمية لجميع المباحث واستراتيجيات التدريس ومراجعة وتطوير استراتيجيات التقييم والتقويم بالتشاور مع إدارة الامتحانات والاختبارات بالوزارة ومن لهم ذات العلاقات من مؤسسات تربوية ، وكذلك تطوير المواد التعليمية وأدلة المعلمين وتفعيل استخدام تكنولوجيا التعليم وتنسيق تطوير مصادر التعلم الالكتروني مع الجهات المعنية ، بالإضافة الى تطوير مؤشرات الأداء الرئيسية للمناهج وإجراءات التقييم والتقوييم والتطوير بما يخص ذلك خاصة امتحان شهادة الدراسة الثانوية العامة ، وذلك من خلال خبراء مؤهلين ومتخصصين في المناهج والتقويم ضمن الإطار الوطني .
وللحديث بقيّة
والله الموفق