برغم الاعتقاد ان وسائل التواصل الاجتماعي تقود الرأي العام وتؤثر على الحكومات وتجبرها على اتخاذ قرارات، وهذا امر صحيح نسبيا، الا اننا في الأردن امام مشهد مستجد، فقد باتت فوائد “فيسبوك” للدولة، اكبر بكثير من ضرره، مثلا، إذ تحول إلى وسيلة تنفيس بدلا من الخروج إلى الشارع، مثلما، ان القدرة على إحلال أزمة جديدة، من أجل أن ننسى الأزمة القديمة، بات فنا بحد ذاته، يتم اللجوء إليه يوميا، لتغيير الاتجاهات، عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
خذوا مثلا موجة الغضب على هروب النساء من ناد ليلي، وبث المقطع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ثم انفجار موجة غضب ضد الانهيار الأخلاقي، سرعان ما قفز عنها الناس، مع مقطع فيديو جديد، تم بثه، أي مقطع اعتداء فتاتين على سيدة، فاشتد الغضب، بسبب المقطع الجديد، ونسينا المقطع السابق، ثم تم تناسي المقطعين، امام مقطع ثالث على صلة بحفنة من المثليين تم إلقاء القبض عليهم في مزرعة في الشونة الجنوبية، وباتت قصتهم هي الحاضرة، ثم جاء المقطع الرابع لإطلاق نار في شارع الجاردنز، فتحولت الموجه نحو الحادث الجديد وكل قصة من القصص السابقة تستمر فقط أربعا وعشرين ساعة، وتنتهي صلاحياتها.
هذه عينات من قصص الأسبوع الفائت، وبعد القصص الاربع، جاءت قصة فرض ضريبة جديدة تحت مسمى بدل خدمات جمركية على المشتريات الالكترونية، وكل صفحات فيسبوك تفيض بتعبيرات الغضب ضد الحكومة حول هذه القصة، وتم تناسي كل المواعظ الأخلاقية وموجات الغضب بخصوص المقاطع الأربعة السابقة، وقد تأتينا قصة جديدة تتسرب بطريقة ما، وتتوقع مثلا، وقوع زلزال في الأردن، لا سمح الله، يوم الأول من شهر أيلول، وستنقلب كل الموجة نحو القصة الجديدة التي تم إحلالها، بشكل مدروس، مثلما تم إحلال قصة تعيين سكرتيرات بوظائف مختلفة، ولكل واحدة قصة أثيرت بشكل ما، محل القصص السابقة، وهكذا يتم تجزئة الذاكرة الأردنية، وتقسيطها، لتصبح ذاكرة يومية فقط، تبدأ مع صباحات فيسبوك، وتنتهي بشطب ما فيها قبيل النوم، توطئة وانتظارا لقصة جديدة، قد تحدث بشكل طبيعي، او مصنّعة في غير موقع ومكان.
بهذه الطريقة خسرت وسائل التواصل الاجتماعي، قدرتها جزئيا على التأثير، اذ يتم استعمالها اليوم، بطريقة ذكية، عبر نقل الجمهور من الأرصفة والشوارع نحو صفحات فيسبوك، وبحيث يقول المرء كلمته، وينام وقد أدى واجبه، فيما جانب التأثير على القرار، ومؤسساته، بات يتبدد امام القدرة على إحلال قصص وازمات، مكان قصص وازمات حاضرة، وتورط الجمهور، في ملاحقة الجديد.
كيف يمكن ان يحدث تغيير إيجابي في البلد، اذا كانت قضايا مثل الملف الأخلاقي، وقصصه التي أثيرت الأيام الماضية، عادت وهدأت لأن جمهور فيسبوك، مشغول بقصص جديدة، وهذا مؤشر مهم على ان التلاعب بالوعي بات في اعلى درجاته، من حيث توجيه البوصلة، والتحكم بها، وقد يكون سهلا، على كاتب هذه السطور، او غيره، ان يخرج غدا ليكذب، او يكتب نصف معلومة، ويبني فوقها سبعة طوابق من الأكاذيب، ويقول مثلا، انه شاهد صدام حسين في كهف في جنوب الأردن، او ان صناديق من الذهب شوهدت وهي على متن شاحنة صفراء اللون، تتجه نحو العاصمة، وهكذا قصص كفيلة باختطاف جمهور كامل نحو اتجاه جديد.
بهذا المعنى نفقد تدريجيا قدرتنا على التأثير بسبب حالة التشتت وعدم التركيز، والقفز كل يوم من قصة إلى قصة. ولعلي اسأل الجمهور ان يعود عشرات الأيام إلى الوراء، عبر إعادة تصفح صفحات فيسبوك، وسوف يكتشف ان عمر كل قضية هي يوم واحد فقط، وان وسائل التواصل الاجتماعي، باتت في حضن الحكومة الدافئ أولا، قبل الجمهور.
الغد