فني صيانة يغشني، وجار يسرق مياهي، وجار آخر يحدد لنفسه مساحة من الشارع العام أمام منزله موقفا خاصا لسياراته الفارهة بوضع عدة مخاريط فسفورية مربوطة مع بعضها البعض بسلسلة (جنزير) كحدود لتلك المساحة محرم على أي شخص انتهاك حرمتها، ولربما كان من المتنفذين وما أنا بعارف، وما أدراني؟
هذه ليست صورة سوداوية عن المجتمع الأردني بل واقعية لكنها ليست مطلقة، أعني إنها لا تشمل كل مواطن أردني، ففينا من الشريف من يضرب به المثل في الإستقامة والنزاهة والأمانة في العمل واحترام الجار حتى السابع، وفينا من يفني عمره لأجل هذا الوطن، وفينا من يعيث في البلد فسادا ما بعده فساد ولا قبله!
وهذا جانب من جوانب المجتمع الأردني محصور في علاقة المواطن بالمواطن في الحياة اليومية.
وهناك جانب آخر من جوانب المجتمع الأردني يدخل في إطار علاقته بالدولة الأردنية، سنأتي بالحديث عنها بداية من قصة رغم طرافتها إلا أنها ذات مغزى رواها لي أحد الأقارب حينما كان يؤدي خدمة العلم في الثمانينيات من القرن الماضي.
يقول قريبي: "قدم لنا مدرب عسكري شرحا نحن مجموعة من المكلفين أي الجنود الإحتياط عن قطعة سلاح إسمها (Rocket launcher)، وفي سياق الشرح ذكر المدرب أن القطعة مصنوعة من الألمنيوم، فاستأذنه أحد المكلفين بمداخلة، فأذن له المدرب، فأفضى المكلف بمداخلته يقول: "ونت الصادق سيدي، القطعة مصنوعة من سبيكة ألمنيوم مش من الألمنيوم لحاله"، فانتهره المدرب مقاطعا: "شو السبيكة هاي...من وين جايبها... انت جاي تعلم علي... اسمع... شايف هضاك الحمار... بتركض وراه... قال سبيكة قال... يللا أركض ورا الحمار". وركض المكلف وراء الحمار الكائن آنذاك مع مجموعة حمير في محيط معسكرات الجيش في خو.
بالمناسبة، المكلف عينه كان للتو قد تخرج من معهد إيطالي حاملا شهادة دبلوم معادن وآلات، وحصل على منحة جامعية للتجسير، لكن خدمة العلم حرمته من تلك المنحة، إذ لم يكن قادرا على دفع الرسوم التي ستترتب عليه في حال تخلفه عن أداء خدمة العلم.
وأتساءل: كم من الكفاءات الأردنية ركضت وراء الحمير حتى هربت على تلك الحمير نفسها بشهاداتها العلمية وخبراتها القديرة إلى ما وراء البحار؟
ثم يتساءلون: لماذا لا تنخفض النفقات الجارية رغم الجهود الحكومية الكبيرة لتخفيضها؟
لعلني لا أغالي إذا ما قلت إن أحد الأسباب في استمرارية إرتفاع العجز في ميزانية الحكومة يعود إلى أننا لم نضع بعد الرجل المناسب في المكان المناسب، وإلا من منا يصدق أن رئيس شعبة فنية في إحدى المديريات الحكومية شبه أمي؟ ومن منا يعقل أن رئيس قسم حركة في أحد المكاتب الحكومية هو شبه أمي أيضا؟
هذا من جهة، من جهة أخرى وزعت إحدى الوزارات الحكومية قبل فترة بدلات مناوبة على أساس غير مسبوق في تاريخ الإدارة العامة، ستحكم على معياره العدلي بنفسك عزيزي القارئ بعد أن أقص عليك قصته، والقصة وما فيها:
لنفترض أن إحدى فترات المناوبات في تلك الوزارة تبدأ من شهر (س) حتى شهر (ص).
أي موظف ناوب خلال تلك الفترة وصدر في يوم مناوبته تعميم من الوزارة بصرف بدل مناوبة للموظفين المناوبين في ذاك اليوم، فإنه يستحق بدل مناوبة، في حين أن أي موظف ناوب في تلك الفترة -أي من شهر (س) حتى شهر (ص)- ولم يصدر في يوم مناوبته تعميم من الوزارة بصرف بدلات مناوبة للموظفين المناوبين في ذاك اليوم، فإنهم لا يستحقون أي بدل مناوبة!
حتى المنطق يتداعى أمام مثل هذه التخبطات في التصرف بالمال العام بدون مثقال ذرة من العدالة.
ثم نأتي على جانب ثالث من جوانب المجتمع الأردني يدور في فلك علاقة المجتمع الأردني بالآخر، والآخر هنا في هذا المثال هو السائح الأجنبي، والأجنبي أي مواطن غير أردني بحسب قانون الجنسية الأردني، أي أن السياح العرب أجانب من وجهة نظر القانون.
طلب سائق سيارة أجرة من سائح أجنبي خمسة دنانير أجرة علما أن العداد يشير إلى نحو ثلاثة دنانير، فيحاجج السائح السائق حول الأجرة غير العادلة التي يطالب بها فيقول له السائق: "صدر قانون جديد بأن أقل أجرة تدفع هي خمسة دنانير". والسائح عماني جاء وزوجته لعلاج العقم في مستشفى الأمل.
ومثلما أننا لا نعذر الحكومة أن تعزو تباطؤ النمو الإقتصادي للظروف الإقليمية المحيطة بنا، فإننا يفترض بنا ألا نعذر الشعب بأن إنخفاض أعداد السياح يعود إلى ضعف التسويق الحكومي لسياحة البلد.
إذ تجدني أتأمل هذه اللوحة التعبيرية عن المجتمع الأردني، تراني أضع إطارا لها من عبرة نستقيها مما ذكر في كتاب يحمل غلافه عنوان (حفيدة صدام حرير حسين كامل) أن أحد أسباب إنهيار عراق صدام حسين هو اعتماد الولاء على حساب الذكاء معيارا أساسيا للتعيين في أجهزة عراق صدام حسين، وهذا مثال أستعين به لأدق ناقوس الخطر محذرا الشعب قبل الحكومة بأن المجتمع الأردني على حافة الإنهيار إذا ما استمر المسؤول يطلب من الموظف الأكفأ منه أن يركض وراء الحمار.
على هامش المقال:
قيل إن ابن تيمية قال: "رب أمة كافرة عادلة خير من أمة مؤمنة ظالمة".