الصحافة الأسبوعية وصحافة الإنترنت .. نظرة بين تجربتين
عامر غزلان
17-08-2019 11:18 PM
لم تعد الصحافة اليوم مشابهة لما كانت عليه في أيِ يومٍ مضى، الأحرف المكتوبة بالحبر على الورق فيما سبق، تحولت إلى أحرف مضيئة، والأقلام تحولت إلى كيبوردات، والباحث الذي كان يضنِكُ عقله ويستهلك جلّ وقته في البحث عن معلومات بين الكتب والمراجع والمقابلات ليبني بها مادته الإعلامية، صارَ يرمي بها الآن على معالج الكمبيوتر ومحركات البحث، صارت المعلومات أكثر وأوفر، وتحول جزء كبير من جهد الباحث الذي كان يخصصه للبحث عن المعلومة، إلى قدرة أكبر على معالجتها.
نظرياً، يفترض بكل هذه الميزات والتكنولوجيا التي ظهرت في هذا العصر، أن تكون رافعة لعالم الصحافة والبحوث، وأن تكون بيئة محفزّة لمحتوى صحفي وإعلاميّ وعلمي أّوفَر وأعلى جودة، في المجالين الإخباريّ والبحثيّ، حيث أنه من الجانب النظري، فإن العلاقة بين وفرة المعلومات ووفرة كم المادة الاعلامية علاقة طردية، كلما كانت المعلومات أوفر كلما كان المحتوى الإعلامي أكبر وأكثر، لكن ما الذي حصَّل فعلاً؟
عملياً، ساهمت وفرة المعلومات بمعزل عن النظر في مدى جودتها في تكثير المحتوى الإعلامي، إلا أنها لم تساهم في رفع جودته، فالإعلاميون الأفذاذ الذين تعلموا الصحافة التقليدية في عصر ما قبل هذه عصر زخرة المعلومات، بقوا يستخدمون نفس الطرق في جمع المعلومات، الطرق الأصيلة، لأن طريقة البحث صارت سلوكاً مهنياً لهم، مثلاً، في نظرة سريعة على كتاب الأعمدة اليومية في الصحف، يُلاحظ أن أغلبهم إن لم يكن كُلُهم، هم من الصحفيين التقليديين، ويقصد هنا بالتقليديين أي الذين تعلموا الصحافة في مدرسة الورق والقلم، التي خرَّجَت صحفيين مجدين في البحث عن المعلومة من مصدرها، وهنا لا أحد يشتكي من هذا النوع من الصحفيين، على العكس من ذلك، تجد أغلب الصحفيين الجدد في وسائل الإعلام الإلكتروني هم من رواد مدارس الصحافة الحديثة، التي ظهرت بها مجموعات جديدة من مصادر المعلومات مثل (المواطن الصحفي، والمواطن المراقب، ومصدر مطلِّع)، وهنا صارت المشكلة.
ما هي المشكلة؟
المشكلة هي ضحالة وغرابة مشهد الرأي العام في الأردن، وهذه قضية ليست جديدة، منذ عهد صحف الأسبوعيات وإلى اليوم. في أي مكان في العالم يفترض بالرأي العام أن يكون مهتماً بأمور مختلفة، النباتيون مهتمون بالنباتات، والحقوقيون مهتمون بالحقوق، وكذا..إلخ، الرأي العام الأردني مختلف بشكلٍ يدعوا للانتباه، الرأي العام في الأردن والذي يعبر عن نفسه عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالشكل الأكبر يبدوا كقالب ثلج واحِدٍ كبير، الكل يفكر في نفس المشكلة مرة واحدة وبشكل هستيري، مهما كان شكل القضية، سواء أكانت فعلا قضية تستحق اهتمام الرأي العام أم لا، ثم ينساها الجميع منفكين إلى الاهتمام بقضية عامة أخرى، أيضاً بمعزل عن أهميتها أو أولويتها عن سابقتها التي نسيها الناس للتو لصالح القضية الجديدة.
معيار الإهتمام بالقضايا العامة في الأردن ليس مقياسه مدى أهميتها، بل بقدر الجلَّبة التي تصنعها، قبل عصر السوشيال ميديا كانت تستحوذ صحف الأسبوعيات على جلِ اهتمام الناس، وبالتالي كانت تحجز حصة كبيرة من المبيعات على حساب باقي الصحف اليومية بشكلٍ أو بآخر، وذلك لم يكن سببه ندرة أو جودة المحتوى الذي كانت تقدمه "الأسبوعيات" كما يحب أن يسميها العاملون في مجال الصحافة، بل كانت تحظى باهتمام الناس لسبيين رئيسين هما، نوع الاخبار الذي تنشره الصحف الأسبوعية ولا تممكن من نشرها الصحف اليومية، لاعتبارات كثيرة أهمها أخلاقيات ومبادئ العمل الصحفي والتي تلزم من يعمل بها أن لا ينشر الأخبار مجهولة المصدر أو الأخبار الغير مثبتة.
السبب الثاني في قبول الصحافة الأسبوعية لدى الناس في ذلك الوقت أكثر من الصحافة اليومية، هو طريقة الصحف الأسبوعية في عرض المعلومة، على عكس الصحافة اليومية، كانت الصحافة الأسبوعية تعتمد أسلوب التشويق والإثارة والسرد القصصي للقضايا الصادمة والمثيرة لانتباه الناس، ولهذه الطريقة الرديئة مكانها في اختيار الموضوع والعنوان والمحتوى، حيثُ لا بد للعنوان أن يكون صادماً يستدعي القارئ لشراء الصحيفة فور سماعه به، وليقوم بدوره كمسوق لها عبر نقله الخبر بقدر امكانه بين الناس لأنَّ القارئ في مثل هذه الحالة يشعر بأن لديه ما يخبر به الناس، فتجد أن الصحف الأسبوعية كانت تنشهر بتسارع مذهل، كما هي وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، نفس المهارات التي كان يحتاجها الصحفي في "الأسبوعيات" سابقاً يحتاجها اليوم ليجعل وسائل التواصل الاجتماعي سوقه الخاص، الذي يكمل به مسيرته المهنية بإببتزاز الناس، سواء القراء أم من يكونوا هُم موضع المادة الصحفية.
كتاب صحافة الأسبوعيات فيما سبق، أغلبهم انتقلوا إلى وسائل الإعلام الإلكتروني، على المواقع الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي، الصحفيون هُم هُم أنفسهم أو تلاميذهم، والقرّاء والمتابعون هُم هُم أغلب الناس، وفي نظرة سريعة على ناشري المواقع الإلكترونية وأصحاب تسجيلات اللايف، ومثيري القضايا التي تثير الرأي العام، سيجد الناظر أن أغلبهم هم من العاملين سابقاً في صحافة الأسبوعيات، أي انهم عملوا واكتسبوا خبرة مهنية فيها، وهم أصحاب الاختصاص في جلب المتابعين وجذب الأنظار.
ما هي المشكلة؟
المشكلة هي في أن الرأي العام يتشكل اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه حقيقة لا مجال لفردها وجلب الحجج لإثباتها، عبر تنفيذ تجربة سؤال أي شخص عن مصدر آخر معلومة سمعها، المصدر الأول لآخر معلومة سوف يكون وسائل التواصل الاجتماعي لنسبة الأغلبية العظمى، ربما نسبة قليلة ستجيب عبر الراديو، والذي هو يأخذ مواده من السوشيال ميديا لانها هي التي تثير اهتمام الناس، وعلى ذلك، صار الرأي العام أسيراً بيدي من يحرك وسائل التواصل الاجتماعي من كتاب، وصحفيين، واعلاميين، وقراء، حيث كلٌ منهم يقوم إما بدور الناشر أو المتلقي أو الناقل، وفي افضل الحالات متفرج فقط، وصار تحريك الناس ولفت انتباههم عن أي شيء من الممكن أن يحصل بفيديو لحادثة صادمة تستدعي الانتباه، والشاهد خلال هذا العام أن الحكومة قد اتخذت مجموعة من قرارت اقتصادية تمس دخول الناس واقواتهم، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت ملتهية بأمور أخرى دون المستوى.
وشاهد آخر، عند أحداث الرابع قبل عام ونصف، لم يتحرك الشارع ولم تستشيط الناس حول قانون ضريبة الدخل، إلا بعد الفيديو الشهير الذي انتجته شركة عرمرم للإعلام، كل هذا ليس صدفة، إنها طريقة في إدارة الإعلام، من الممكن لأي من يجيدها أن يتحكم بالرأي العام الأردني، وهذا خطر من الدرجة الأولى، لا يمكن للناس ولا للدولة ان تبقي يديها مكفوفة عنه.
ما الحل؟
من الوهم القول بأنه لا توجد وصفة كاملة لحل المشكلة، على العكس تماما، يوجد وصفات متعددة يقدمها خبراء السياسات لعبور مثل هذه المشكلة لن أستطيع أن أقدم في هذا المقال سيناريو كاملاً، إلا أني سأقدم ملامحه الرئيسية التي من الممكن عبر التفكير بها منا ومن صانعي القرار، الخروج بخارطة عمل للتعامل بجدية لحل هذه المشكلة من جهة، وخلق بيئة وقائية من جهة أخرى، حيث أن المشكلة ليست من مستوى المشاكل الاعتيادية، بل هي مشكلة أمنية من الممكن أن تهز الاستقرار في أي وقت، ومن الممكن أن تتكاثر وتستمر اذا تم تجاهلها.
أولاً: الجانب التشريعي، إن البيئة القانونية المحيطة بأي عمل إنساني تحدد سلوكه، وإن كانت هناك فعل ما، يقوم به المجتمع أو أفراد، ويشكل أذى على الناس ولا يوجد ما يمنعه، فهذا دليل على ضعف البيئة التشريعية بخصوصه، لا بد من إجراء مراجعة قانونية للقوانين الثلاثة الأهم في نظم بيئة وسائل التواصل الاجتماعي البيئة الأكبر والأخصب للمشكلة، وهي قانون "الجرائم الالكترونية" وقانون "المعلومات" وقانون "العقوبات" بما يحقق الاتجاهات التالية: 1. زيادة الحماية للمعلومات الشخصية. 2. رفع العقوبة على نشر الإشاعة والأخبار الكاذبة، وتعديل تعريفاتهما بما يحدد الجريمة بشكل أدق. 3. تحديد عقوبة لمن يشارك أو يساهم بنشر إشاعة أو معلومات شخصية بدون إذن صاحبها. 4. مزامنة رفع قدرة المنظومة التنفيذية للحكومة لتطبيق مواد هذه القوانين.
ثانياً: المناهج التعليمية، تضمين مبادئ المسؤولية الذاتية، واحترام الحريات الشخصية والقانون في المناهج الحالية لمراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، كجزء أساسي لا يتجزأ من المناهج المتعلقة بالتواصل، حيث أن هذا الإجراء هو إجراء وقائي يأتي بثماره مبكراً.
ثالثاً: دور المجتمع المدني، المجتمع المدني المقصود به كل فرد أو مجموعة ليسوا في مواقع صنع القرار، كل فرد في المجتمع المدني المتأثر بالشكل الأكبر من الشائعة والأخبار المزيفة، وقد يكون ضحية أيضاً، لذلك يقع دور مهم على المجتمع المدني في حماية نفسه منها، وذلك بمجابهة أي إشاعة أو خبر كاذب، ونشر ثقافة التحري والتحقق وتعزيز قيم المسؤولية الذاتية.
هناك قاعدة في الأعمال تقول "قل لي من يدفع لك، أقل لك ما تعمل"، هذه القاعدة صحيحة بشكل كبير في مختلف جوانب الحياة، ومن الممكن خلالها معرفة، ما الذي يريدونه من يسخرون وقتهم لوسائل التواصل الاجتماعي؟