لم يكن بإمكان اي متابع للتشريعات الوطنية في السنوات الاخيرة الا ان يلاحظ التسارع المخيف في التعديلات والتغيرات التي تمت وتتم على منظومة القوانين المتعلقة باليات التقاضي ، خاصة اذا ما علمنا ان هنالك اكثر من عشرين قانونا تم تعديلها في السنوات الثلاث الاخيرة دون ادنى مراعاة للمباديء والاسس التي قامت وتقوم عليها هذه التشريعات.
لا زلت اؤمن وغيري كثيرين ايماناً كاملاً بأن القاعدة القانونية كلما كانت جامدة غير معرضة للتعديل المتكرر كانت اكثر استقراراً للتعاملات وافضل بالتطبيق ومقتنع تماماً بان من وضع تشريعاتنا الوطنية عند قيام الدولة لم يألُ جهداً وعلماً عند سنها آخذاً بعين الاعتبار المباديء الفقهية والقانونية والقضائية والاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية وانه وان كانت هذه التشريعات من الممكن مراجعتها وتعديلها تبعاً للتطور الاجتماعي والاقتصادي الا ان ذلك يجب ان يكون لاسباب موجبة واضحة وفي نطاق ضيق وبفترات متباعدة لحين استقرار التعامل والاجتهاد .
تقول القاعدة الفقهية ان المشرع لا يقول لغواً وهذه القاعدة تكون صحيحة كلما راعى المشرع جميع المصالح والاعتبارات بعيداً عن اي ضغوط او املاءات لكنه وللاسف غدا المشرع في السنوات الاخيرة يخضع للضغوط الاجنبية والاملاءات الخارجية والشعبويات النيابية ولا ادل على ذلك ما حدث عند الغاء المادة ٣٠٨ من قانون العقوبات والتي ضُرب عندها عرض الحائط بمصلحة المضرور ونسي المشرع او تناسى يومها ان يضع بدائلاً لمعالجة هذا التعديل فأصبح حينها يلغوا تماما.
اذ ان اهم مبدأ من مباديء علم العقاب ان الهدف من العقوبة بالاضافة للمصلحة العامة (النفع) هو تحقيق العدالة وارضاء الشعور العام اي بمعنى ان تكون العقوبة متناسبة مع الفعل ومع السلوك المرتكب و الاضرار المترتبة عليه بالاضافة للمنفعة ( منع المجرم من تكرار الجريمة ) وهو ما غاب عن ذهن المشرع حينها تحت ضغط ما.
لم نقرأ في يوم من الايام تشريع يحدد للمتهم مدة زمنية لتقديم بيناته الدفاعية الا عندما انحرف مشرعنا المحترم عن طريق الدفاع المقدس وذهل عن ضمانات المحاكمة العادلة.
اصبح المشرع يلغو ايضاً في قانون محاكم الصلح حين فتكت التعديلات الاخيرة بالمبدأ العام الذي قام عليه هذا القانون واستمد منه تسميته حين اغرقه المشرع بالشكليات وغفل عن ان مهمة القاضي بالاساس وبالنص هي مواجهة الخصوم وعرض الصلح على المتداعين والذين اصبحوا غارقين اصلا بمدد ودفوع شكلية دخيلة افقدت القانون معناه وجعلت القاضي قاضي شكل لا قاضي موضوع كالنص على المدد التي قد تصل في بعض الاحيان الى خمسة ايام وحصر للبينات تخل بميزان العدالة وهذا مع الاحترام ضرب من ضروب الاسراف في الشكل وحرمان تام لضمان عدالة ناجزة ومحقة وخروج عن وظيفة القضاء الاصيلة.
التسريع في عملية التقاضي كانت حجة المدافعين عن التعديلات ولكن البُشرى السيئة لهم ان هذه التعديلات لم تؤت ثمارها وان كانت فهي على حساب العدالة اذ ان اسناد مهمة النظر بالطعون بالقضايا الصلحية لمحاكم البداية مثلا كان نتائجه كارثية وهو المسكوت عنه حالياً ويهمس به القضاة انفسهم.
لا افهم ابداً هذه الهرولة والركض وراء تعديلات لم تقدم لنا الا الارباك ولم تضف للعدالة الا اللهاث وراء احكام وسرعة بالفصل كأننا في سباق محموم مع الزمن على حساب العدل والحق.
وأخيراً يطل علينا بعض المتباكين على المدينين يطالبون بالغاء حبس المدين دون ان يرف لهم جفن او يمعنوا في التفكير في مصلحة الدائن لا بل ومصالح البلد الاقتصادية متناسين تماماً ان قانون التنفيذ الساري المفعول راعى تماماً مصالح الطرفين وان اي الغاء للحبس سيهدد السلم الاهلي وسيساهم في تدمير المجتمع وانعدام الثقة بالقضاء والعدالة .
التشريع هو حاجة المجتمع ولا يجوز للمشرع عند تلمسه حاجات المجتمع ان ينساق وراء اي مطالبات ولا ان ينصاع للضغوطات الشعبوية حتى لا يلغو ولا يجوز تحت اي ذريعة كانت ان نهدم مبادئ قام عليها التشريع وسنها في حينه اساتذة كبار كانت صالحة لكل زمان ومكان وعلينا جميعاً نقابات وجماعات وافراد ان نتصدى لهذا العبث .