إيمان يحرك الجبال الراسيات
د. موسى برهومة
26-10-2009 02:31 PM
تفتتح نهارك بنبأ يأتيك عبر الموبايل:"مجهولون يعتدون بالضرب على ليث شبيلات"، فتدرك أن هذا اليوم كئيب ومشبع بالألم كالذي سبقه، خصوصا وأن هذا النبأ جاء مسبوقا بآخر أكثر ضراوة يتحدث عن انفجارين عنيفين هزا العاصمة العراقية.
وبينما تهمّ بغسل وجهك بذكر الرحمن، تستذكر حادث تصادم القطارين جنوب مدينة القاهرة، فتقرر في نفسك أن تلعن الحداثة والتقانة وأوباءهما العديدة.
وما هي إلا سويعات حتى تنهمر الأخبار البائسة عن عمليات احتكار ترفع أسعار اللحوم البلدية في عمان، وسقوط إحدى درفات نوافذ الصف الحديدية على رأس طالب في مدرسة الدجنية الأساسية المختلطة في الصف الثاني الأساسي بالمفرق.
ومع أن طعم القهوة فيه بعض السكر، إلا أنك تشعر بمرارة شديدة بتجرعها وأنت تطالع خبرا عن ضبط كميات كبيرة من الأدوية المزورة منتهية الصلاحية في منطقة المقابلين تباع معظمها لوزارة الصحة وبعض القطاعات الطبية الأخرى.
وتنفث زفرة حارقة على ما آلت إليه أحوال الدنيا، وتحاول أن تنسى بعض التجاوزات التي "يقترفها" أفراد في الأمن العام ضد موقوفين يفترض أن يكونوا، كما ينص القانون، في منأى عن التعذيب الذي أدخل الشاب صادم السعود في غيبوبة يترنح خلالها بين الحياة والموت.
وتقودك هذه الحادثة، رغما عنك، إلى أخرى شبيهة جرت في الوقت نفسه حفلت بأقصى معاني الإهانة والازدراء الإنساني ضد المواطن هيثم أبو خالد الذي زعم أنه تعرض في أحد المراكز الأمنية بوسط العاصمة إلى صنوف من التعذيب وصلت إلى حدود الشبح، والبصق في الفم، والتهديد بإجبار شقيق الموقوف على ممارسة اللواط معه على الملأ.
وكنت أحادث أمس الشاب هيثم الذي صدمني بمزاعم تتصل بالتهديد بوضع عصا غليظة في مؤخرته.
"الأمن العام" باشر بالتحقيق في هذه الممارسات التي تخطف بريق النزاهة من رجل الشرطة، وتضعه في موقع العداء والمواجهة مع الإنسان الموقوف مهما صغر جرمه أو كبر.
وليس في المطالبة بأن يمتثل أفراد الأمن العام للضوابط المهنية أي مساس بهيبة الدولة، فهيبة الدولة هي نتاج كلي ومباشر لهيبة أبنائها وكرامتهم، وكبرياء المؤسسات لا يتحقق إلا برصانة التقاليد وعراقة الأعراف.
ويستنزف المرء أن يرى الأشياء والمفاهيم تتداعى أمامه على نحو يبعث على المرارة، ويفجر الآبار الارتوازية للاحتقان، ويدرك تمام الإدراك واليقين أن مثل هذ الممارسات النزقة غير المتسامحة تعد بمثابة نقطة سوداء في ثوب شديد البياض والنصاعة.
وما دام للبياض مثل هذه السطوة فإن الأنباء، على غير عادتها، تهدي إليك ما تقوى به على مجابهة النكد وشقاء الوقائع والأحداث، فتعقد لسانك الدهشة وأن تسمع كيف جادت الطبيعة بخيراتها وأسرارها على الستيني يوسف رحال الذي ترجّل على قدميه بعد خمسة وعشرين عاما من الشلل.
كان يوسف، منذ سقط عن رافعة تموين يصل طولها إلى 4 أمتار أثناء عمله في الملكية الأردنية، يحلم بقدمين لا يتسرب إليهما الوهن والخدر، وظل وفيا لذلك الحلم، يحرسه ويهدهده ويسقي وروده بالدمع واللهفة والترقب.
ومنذ صبيحة يوم أمس افترق يوسف عن كرسيه المتحرك الذي لازمه ربع قرن، وراح يتحسس دفئا يركض في شرايينه، ويبث في عروقه فرحا أسطوريا يدعوه إلى الرقص.
مذاق المعجزة الذي رشف حلاوته يوسف رحال يؤكد قدرة الإنسان على الانتصار على عجزه مهما كان مستبدا ومقيما، ما دام مؤمنا ومصمما على هزيمة المرض والإخفاق ودحر الألم.
..بدأت أمسي بليث شبيلات وانتهيت بيوسف رحال، وما بين الرجلين حكايات طويلة عن الحلم والصبر.. وعن الإيمان الذي يحرك الجبال الراسيات، ولا يرتجف!
m.barhouma@alghad.jo
* الزميل رئيس تحرير يومية الغد ..