نحو مشروع "نقل عام" وطني وحضاري
د. طارق زياد الناصر
14-08-2019 03:53 AM
لا اظننا نبالغ لو قلنا ان خدمات النقل العام والبنى التحتية المرتبطة بها هي من ابرز تحديات التنمية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وحتى السياسية، بل يتعدى ذلك للارتباط بمختلف مناحي الحياة وقطاعاتها، فالدول المتقدمة هي حكما دول تمتلك نقل عام جيد وبنى تحتية تليق بتقدمها، والدول التي تفتقد لهذه الخدمات تعاني ما تعانيه الدول الاقل نموا، وإن كانت تمتلك موارد طبيعية او بشرية مميزة.
ولا نذيع سرا اذ نقول ان الاردن ورغم كل خطط التنمية التي تبنتها الحكومات المتعاقبة يعاني من بعض المشكلات في قطاع النقل العام، وللاستدلال على ذلك نذكر ما عاناه ويعانيه الاردنيون في الطريق الصحراوي الذي يربطنا بمحافظات الجنوب وثغر الاردن الباسم، ولا ننسى ذكر طريق الازرق الدولي الذي كان له حصته في حصد الارواح، او حتى الاشارة الى العوائق التي واجهت مشروع الباص السريع في العاصمة عمان، وما تعانيه عمان اليوم من ازدحامات بسبب مشاريع الطرق الجديدة او صيانة القديمة، وحدث بلا حرج عن مناطق كبيرة غير مخدومة بوسائط النقل في محافظات المملكة كاملة وتحديدا الاحياء التوسعية للمدن الكبرى، الامر الذي يفرض علينا ان نبحث فيه ونقدم الحلول المناسبة له.
مع الانتباه الى اننا في الاردن نملك حوالي ثلاثين مليون كيلومتر من الشوارع، ومواقف نقل عام جيدة على المستوى المحلي، مع تطور شركات تعمل في هذا المجال منذ سنوات، ويعتبر قطاع النقل من أهم القطاعات التي تؤثر على الحياة اليومية للأردنيين، وساهم بأكثر من 8.37 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي الوطني في عام 2017، وهو العمود الفقري لنظام النقل الوطني، وقد شهد تطورا لوجستيا ملحوظا بالرغم من كونه يواجه الكثير من التحديات بما في ذلك زيادة الطلب على وسائل النقل العام ونقص العرض، بالإضافة إلى التدهور السريع لشبكة الطرق، وتأثر سلبا بالأزمة السورية التي أضافت المزيد من الضغط على الطرق العامة وشبكات النقل، التي يستخدمها الناس في طريقهم إلى المدارس والمراكز الصحية والعمل والأنشطة اليومية الأخرى.
ومع انتشار تطبيقات الهواتف الذكية طرأت على الاردن شركتان دوليتان كبيرتان تقدمان خدمات النقل عبر تطبيق هاتفي، ولحق بهما مجموعة من التطبيقات والشركات المحلية المتوسطة التي ما زلت في بداية طريقها لإثبات نجاحها من عدمه، وبعيدا عن كون هذه التطبيقات بديل عن سيارات التاكسي الصفراء التقليدية، وانها ذات كلف عالية نسبيا على الطبقة المتوسطة والفقيرة ولا تقدم حلولا حقيقية لهم، لكنها فكرة خارج الصندوق تسجل لمبتكريها لا لحكوماتنا للأسف.
كل ما سبق هو دافعي لتقديم مجموعة من الافكار امام وزراء النقل والريادة والتنمية، وربما التخطيط والصناعة والتجارة وغيرها ايضا، فاليوم نحن بحاجة الى دراسة الاحتياج الحقيقي والنقص الموجود في خدمات النقل العام بشكل مهني وحقيقي، وتغطية هذا النقص من خلال تحديد مناطق انطلاق مركزية يتم تأهيل مواقف خاصة ضمنها، بحيث تنطلق منها سيارات نقل عام (باص لعشرة ركاب او عشرين) حديثة ومؤهلة وبأكثر من اتجاه لسد الاحتياج العام من وسائط النقل وفقا للطلب عبر تطبيق هاتفي ذكي، وبمواعيد شبه منتظمة تحدد وتحدث بشكل مستمر عبر التطبيق، وهو ما يحتاج لعمل جاد تقوم به وزارة النقل وهيئة تطوير قطاع النقل البري، وبرمجة وادارة للتطبيق من وزارة الريادة والاقتصاد الرقمي، فما هو دور وزارة التنمية وغيرها من الوزارات؟
ادخال وزارة التنمية في المشروع يقوم على ثلاث محاور تتمثل اولا بعدم ترك مثل هذا المشروع لتجار كل ما يعنيهم الربح على حساب الخدمة احيانا، او على حساب جيب المواطن والافلات من الرقابة بطريقة او اخرى، اما المحور الثاني فيتعلق بدعم العمل الخيري من خلال اقامة تحالفات بين الجمعيات الخيرية لتأسيس شركات ادارة هذه الخدمة وتمويل المشروع بالطرق المناسبة من خلال موازنات الجمعيات او فرص التمويل المختلفة بضمان حكومي ، وفتح باب الاكتتاب للأفراد في المجتمعات المحلية، مع ضمان الرقابة الادارية والمالية التي ستكون على عاتق وزارة الصناعة والتجارة بالشراكة مع التنمية الاجتماعية، والثالث ايجاد فرص عمل حقيقية للشباب وتشغيلهم في اقسام هذه الشركات المختلفة بإشراف ديوان الخدمة المدنية .
وفي حال توفر التمويل اللازم للمشروع، فانه سيكون لدينا اما شركة مواصلات وطنية عملاقة، او مجموعة من الشركات المحلية متوسطة الحجم تقدم خدمة نقل عام مناسبة وبسعر منافس وتحقق عوائد حقيقية، والتي يمكن توزيع ارباحها وعائداتها السنوية بحيث تكون وعلى سبيل المثال 30% للجمعيات المتآلفة والشركاء المحليون، 20% لصناديق المعونة الوطنية واقراض الطلبة،20% لصالح صندوق تنموي تديره وزارتي الادارة المحلية والاشغال لتطور البنى التحتية على المستوى الوطني، و10% لجهات دعم الريادة والابتكار، و20% كرصيد مدور لرأس مال الشركة ولفترة لا تقل عن 10 سنوات لضامن استمراريتها واسهامها في الخدمات المجتمعية ، او يصار الى ايجاد صندوق تنموي عام يخصص له 50% من ارباح هذه الشركات ويقدم التمويل التنموي اللازم للمشاريع الوطنية حسب الحاجة.
ان العمل على خلق فرص استثمارية للمجتمعات المحلية في قطاع النقل العام سيكون له الاثر الكبير والحقيقي على تنمية هذه المجتمعات، وتطور القدرة الانتاجية لديها ما يضمن نجاح مشاريع اخرى في مجالات مختلفة، فكيف ان كان لمجالات التنمية المتعددة حصة ثابتة من عوائد هذه الفرص، وكيف ان كان للريادة وتوظيف التكنولوجيا نصيب في ذلك، وحدث بلا حرج عن امكانية نجاح وزارة التخطيط بجلب الدعم المتكامل لمثل هذه المشاريع وتشغيل الايدي العاملة بشكل اكثر حرفية، والانتقال من المشاريع الانتاجية الصغيرة الى مشاريع ضخمة في الانجاز والعائد التنموي، بالإضافة الى ان اشراك الجمعيات الخيرية في هذه الاعمال هو الطريق لتحقيق اكتفاء ذاتي في العمل الخيري الاردني.
ختاما وبالعودة الى الفكرة المقدمة في هذا المقال فحقوق ملكية هذه الفكرة ملك للنفع العام، واي مساس بها لصالح القطاع الخاص هو اعتداء على ملكية الاردنيين، واي تهاون حكومي في تنفيذها هو خطوة نحو الخلف في مسيرة التنمية، واذا احتاجت الفكرة للمزيد من التوضيح فمن الممكن تقديم مقترح اكثر تفصيلا والاستلال بالأمثلة التنفيذية وصولا الى تنفيذه.