كان الشيخ باقر الشبيبي، أحد فقهاء النجف، من المفتونين بغناء أم كلثوم، وما أكثرهم! ازداد افتناناً بها بعد زيارتها لبغداد، فنظم فيها قصيدة طويلة، قال فيها:
هلا أيتها الغادة
تغني لي على العادة
تطلعت إلى الجو
وقلبي دائم الخفق
فأبصرتك في السرب
وشاهدتك في الأفق
فمن سواك كالطير
ومن أنت من الخلق
أمن عائلة البلبل
أم من مجمع الورق؟
الإشارة هنا إلى الطير والبلبل إشارة لما شاع بين العراقيين في أن أم كلثوم سرقت خلال زيارتها للعراق حنجرتها من الحمامة الموصلية التي سكنت المنارة الحدباء في مدينة الموصل، مركز الطرب القديم، واشتهرت بعذوبة صوتها. استمع الدكتور زكي مبارك إلى القصيدة والأسطورة، فنشر مقالة بعنوان «أبو كلثوم الوفدي»، أشار فيها إلى تعلق الشبيبي بأم كلثوم وبحزب الوفد.
أثارت القصيدة ومقالة زكي مبارك نقاشاً حافلاً بين أدباء بغداد وشعرائها. وكان من ذلك جلسة عقدها نادي القلم العراقي في 1938، بمنزل الدكتور محمد فاضل الجمالي، وحضرها زكي مبارك وعبد المسيح وزير وعباس العزاوي ومحمد رضا الشبيبي ومتى عقراوي. وكان زكي مبارك قد نشر قصيدة طويلة بعنوان «من جحيم الظلم في القاهرة إلى سعير الوجد في بغداد»، استهلها قائلاً:
وفدت على بغداد والقلب موجع
فهل فرجت قلبي وهل أبرأت دائي؟
سأله الحاضرون عن سبب إقلاله من الشعر، فقال إن التأليف قتل قريحته فهو يشغل الفكر عن الغناء. ثم طلبوا من باقر الشبيبي أن يرد على قصيدة الدكتور، أو بالأحرى الدكاترة زكي مبارك، فدعاهم إلى بيته واستضافهم بكرمه المعروف، ثم أنشد لهم:
وفاء بعهدي أو نزولاً على وعدي
وقفت أحيي معشري وبني ودي
وقفت أحيي عصبة عربية
بها نستبين الرشد حقاً ونستهدي
فأهلاً بكم في روضة الحب والصفا
وأهلاً بكم عند المسرة أو عندي
لاحظ الحاضرون القافية الدالية، فقال أحدهم: أراهنكم أنه سيتطرق لحزب الوفد! ضحك الشاعر، ثم مضى ليقول:
وذكرني عهد الصبا في نشيده
سلام على عهد الصبا في ربى نجد
هواه على أجراف دجلة وافد
وأما هوى قلبي فللنيل و«الوفد»
فصاحوا صحت فراسة الدكتور مبارك، ولكن ماذا عن أم كلثوم سارقة البلبل؟ مضى الشاعر منشداً:
قتيلان إما من لقاء مفاجئ
أتيح، وإما من لقاء على وعد
فإما قتيل من جنى الشهد يشتكي
وإما صريع يشتكي من جنى الورد
«صريع الغواني» لا تلمني فإنني
صريع أغاني أم كلثوم لا دعد
عن الشرق الاوسط