ربما لا نبالغ اذا ما قلنا ان الجهود التي تبذلها الجهات المعنية في بلدنا لتشجيع السياحة وجذب السائح والزائر والضيف بما فيه مصلحة الوطن اتساقا مع شعار الاردن المضياف ، قد لا يكتب لها النجاح اذا ما تركنا لبعض التجار واصحاب المطاعم ان يقرروا مستقبل السياحة في الاردن من خلال منحهم الحرية الكاملة في التلاعب في الاسعار وتحديدها وفقا لاهوائهم وامزجتهم في استغلال فاضح وواضح وصريح لهذه الجهود ولعوامل الجذب السياحي التي ينعم بها بلدنا بما هي امان واستقرار وطمأنينة . اذ لا يعقل ان يتم توظيف هذه العوامل بما تجسده من بيئة جاذبة ومخزون وطني سياحي استراتيجي في ضرب السياحة ونفور السائح لمجرد ان هناك تاجرا او صاحب مطعم جشع فضل مصلحته على مصلحة البلد ، وفهم ان سمعة بلدنا الطيبة هي فرصته في تعبئة جيوبه ليساهم في تصنيف الاردن على انه من اغلى دول العالم .. مستغلا وقوع الاردن في قبضة الاقتصاد الحر الذي يصبح فيه المواطن تحت رحمة التاجر وتتحول فيه الجهات الرسمية المعنية الى ناطق اعلامي لتبرير سياسة رفع الاسعار. فقبل فترة مثلا كانت جهة رسمية محلية تبث عبر اثير احدى الاذاعات المحلية اعلانا تحذر فيه التجار من البيع باقل من سعر التكلفة بحجة مخالفته لقانون المنافسة ، بينما لم نسمعها تحذرهم من البيع باعلى من التكلفة رغم وصول الاسعار مستويات خيالية .
ان المطلوب لجم هذا البعض الجشع ووضعه عند حده لتجاوزه حدوده .. ولتجاوزه الخطوط الحمراء عندما اخذ يعبث بامننا الغذائي ويسيء الى سمعة اردننا المضياف دون وازع من دين او ضمير او اخلاق .. ودون حس وطني او احترام للوطن الذي يعيش فيه امنا مطمئنا على نفسه واهله (وماله) .. الوطن الذي كرمه بحمل هويته وعنوانه حتى غدا مواطنا معززا مكرما اينما حل واينما ذهب .. فهل هذا هو جزاء الاحسان ؟ هل هذا هو جزاء الوطن الذي احتضنه ليعبث بامنه ويتاجر بسمعته من اجل مصالحه واطماعه الشخصية ..؟ وكم عدد افراد اسرة هذا الجشع ليفضلهم على عدد سكان الاردن ؟ وما هي طبيعة المعيشية التي يريدها لاسرته على حساب الاردنيين وتسببه في زيادة تكاليف مستوى معيشتهم وارهاقهم وتجويعهم والتنكيل بهم ؟ وهل ستستمر الجهات المعنية في التخلي عن دورها في حماية الناس من هؤلاء الجشعين بحجة دخول البلد نادي الاقتصاد الحر ؟ مع ان العضوية في هذا النادي تحتاج الى ارضية من الوعي والنضج والثقافة السياسية بين الناس ، احسب اننا ما زلنا نفتقدها في مجتمعنا ، ما يجعلنا عاجزين عن تفويت الفرصة على هذا البعض المستهتر عن طريق المقاطعة مثلا ، بوصفها وسيلة توعوية كفيلة بسد الثغرة الموجودة في جدار ثقافتنا الاستهلاكية التي تتيح له المجال لشق طريقه نحو عالم الغلاء وفرض السعر الذي يريد وفقا لمزاجه ومصالحه .
لقد جلست الى رجل اعمال اردني هاله ما سمعه من بعض ضيوفه العرب والاجانب الذين زاروه مؤخرا لقضاء اجازة الصيف في الاردن ، وهم يتحدثون باستغراب واستهجان عن الغلاء الفاحش في بلدنا بشكل يفوق ما هو موجود في اميركا واليابان ودول اوروبا حسب قولهم . حتى انه ذكر ان ابنته اصطحبت معها بعض صديقاتها الى احد المطاعم او الاماكن في عمان ودفعت ما يناهز السبعين دينارا ثمن اربعة فناجين من القهوة والشاي . وتحدثنا عن المطعم الذي يبيع الحمص والفول والفلافل وكأنها لحمة ويضيف على ذلك 10% خدمة ( عدا عن 16% ضريبة مبيعات ) ، وقد يصل سعر اربعة او خمسة صحون من هذه الاكلات الشعبية عشرين دينارا او اكثر ، في الوقت الذي يبيع فيه كاسة الماء ( وليس الزجاجة ) بحوالي دينار واحد . ما يعني ان هذا الجشع قد جعل السائح او الزائر يأخذ فكرة عن الاسعار في بلدنا بانها مرتفعة ، بحيث لا يفكر بتناول هذه الاصناف التي يفترض انها اكلات شعبية اردنية رخيصة ، وفيما يشبه حملة تحريض للمطاعم الاخرى التي تبيع نفس الاصناف بغض النظر عن مواقعها لرفع اسعارها والاقتداء بهذه القدوة ( السيئة ) . عدا عن تاجر اللحمة الذي يمارس ابشع اساليب الاحتكار ليفرض على بلد كامل السعر الذي يحدده ، وهو يسطو على مرابي المواشي الصغار مستغلا عدم قدرتهم على تغطية تكاليف تربية مواشيهم .. فيشتريها باقل الاسعار ويطرحها في السوق باسعار جنونية .. ومتى ؟ في شهر رمضان المبارك .. شهر الخير والبركة والعبادة الذي ينشغل فيه الناس لرفع رصيدهم الايماني ، بينما ( اخينا ) منشغلا في زيادة رصيده الدنيوي الزائل على حساب تجويع الاخرين . دون ان نغفل دور الجهات المعنية في توفير الاجواء التسويقية التي تشجع هذا المحتكر على ممارسة الاحتكار . وهذه بعض مصانع الالبان تبيع بعض منتوجاتها المصنعة من حليب البودرة المجفف الى المستهلك وبعلم الجهة المعنية على انها مصنعة من الحليب البقري الطازج ، رغم الاثار السلبية التي يتركها هذا النوع من التحايل والغش على مربي الابقار الذين قد يضطروا الى طرح انتاجهم من الحليب في الشارع . ناهيك عن الارباح الخيالية التي يحققها هذا البعض من المصانع جراء بيع منتوجاته باسعار هستيرية .
ولان حرية الشخص تنتهي عندما تبدأ حرية غيره ، فمن باب اولى ( انهاء ) حرية هذا البعض الجشع وتقييدها بعد تخطيه حدود حريته واعتدائه على حريات الاخرين من المواطنين وحقهم في العيش بامان وسلام .. لا بل وتخطيه حدوده واعتدائه على سمعة الوطن . لذلك نحن نرفض وبشدة ان يكون بيننا شخص يفترض انه مواطن مثلنا .. لا يغار على سمعة بلدنا بحيث لا نعد نفرق بينه وبين عدونا من منطلق ان لا فرق بين من يستهدف امن البلد واستقراره وبين من يستهدف امنه الغذائي . ان اغرب ما سمعته من ذرائع لتبرير هذه الاعمال الجشعة الدخيلة على عاداتنا وقيمنا واخلاقنا ، تلك التي ترى بان الجهات التي تمارسها وتتسبب في تجويع المواطن وتتاجر بسمعة الوطن هي مؤسسات وطنية وتعمل براسمال وطني .. مع ان الوطنية منهم براء .. فالوطني لا يوجه سلاحه الى صدر الوطن ولا يتسبب في احداث الثغرات في جدار امنه ومنعته . والله نسأل ان يحمي وطننا من العابثين الطامعين الجشعين .. انه سميع مجيب .