تحل غدا الاثنين الذكرى الخامسة عشرة لمعاهدة "وادي عربة" وقد تحوّلت إلى نقمة على وقع سياسات اليمين الإسرائيلي المتشدد وسرطان الاستيطان, الذي ينخر ما تبقىّ من الأراضي المحتلة بما يهدد أمن المملكة واستقرارها مع سائر الشرق الاوسط. كذلك تكسّرت أحلام السياسيين والنخب بإقامة مشاريع اقتصادية ضخمة عابرة للحدود, على صخرة قمع إسرائيل واجتياحات جيشها التدميرية لقطاع غزّة, الضفة الغربية وجنوب لبنان.
في البدء جدلت المعاهدة حبل إنقاذ لسنوات معدودة. فهي ساهمت في كسر طوق عزلة سياسية فرضتها أمريكا وأوروبا مع دول الخليج على المملكة عقابا لها على رفضها الإنضمام للتحالف العسكري الذي أنهى احتلال العراق للكويت عام .1991 ثم هطلت المنح والمساعدات من كل حدب وصوب, وتحول الاردن إلى طفل الغرب المدلل, كما هو حال سورية اليوم. وساهمت المعاهدة أيضا في إعفاء الأردن من ديون أمريكية وأوروبية, وأسست لمناطق صناعية مؤهلة ففتحت السوق الأمريكية أمام السلع الأردنية بدون حواجز جمركية. كما رصفت الطريق أمام توصل الأردن إلى اتفاقية شراكة مع الاتحاد الاوروبي وتجارة حرّة مع الولايات المتحدة تدخل حيز التنفيذ الكلّي عام 2010
عيوب المعاهدة بدأت تتكشف عقب اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين خريف 2005 على يد متشدد يهودي. خلفاؤه لم يحترموا التزاماته في سياق بحثه عن "نتائج فعلية" لتعزيز العملية التفاوضية. حتى شريكه في حزب العمل, وقتها وزير الخارجية شمعون بيريز, واصل رفع شعارات خاوية تدور في حلقات مفرغة بهدف شراء الوقت وفرض الأمر الواقع. وها هو يستمر في المراوغة بعد أن صار رئيسا للدولة العبرية.
في الأثناء أمعنت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في تغليب إستراتيجيتها التوسعية التي قضت على حلم قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للنمو والحياة, كما أرادها الأردن والفلسطينيون. فإسرائيل اليوم تهدد الأمن الوطني الأردني من خلال الاستيطان, الجدار العازل وإجراءاتها الاحادية لتهويد القدس, في تحد لدور الأردن الخاص في رعاية المقدسات الاسلامية والمسيحية هناك, المنصوص عليه في معاهدة السلام.
15 عاما مضت تحولت خلالها المعاهدة إلى كابوس للأردن بدل أن تكون جزءا من عملية سلام شامل ينهي ستة عقود من الصراع العربي-الاسرائيلي على المسارات كافة ويفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الاراضي التي أحتلت عام .1967
وتزداد "البرودة" الرسمية في علاقات البلدين, لتقترب من درجة التجمد على المستوى الشعبي-النقابي-الحزبي. فالملك عبدالله الثاني حذّر قبل أسبوعين بنبرة غاضبة من أن استمرار هذه الاجراءات في القدس سيهز العلاقة مع الأردن ويفجّر شرارات اشتعال كبيرة في العالم الاسلامي برمته.
في خلفية المشهد السياسي تجربة شخصية سيئة لرأس الدولة مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو, الذي كان رئيسا للوزراء بالتزامن مع تولي جلالته سلطاته الدستورية مطلع .1999
داخليا, ساهمت سياسات التشدد في تقوية موقف الاغلبية التي شككت أصلا بمعاهدة السلام. وأفشل الشارع محاولات التطبيع مع إسرائيل, اقله لحين استعادة حقوق الشعب الفلسطيني.
بعد أن فقدت المعاهدة قيمتها السياسية بالنسبة للأردن, وأصبحت مطروحة على الطاولة لغايات التوظيف السياسي كوسيلة للضغط على اسرائيل, يتساءل ساسة وحزبيون عما اذا سيأتي اليوم الذي يعلن فيه الملك تجميد المعاهدة, أو طرد السفير الإسرائيلي?
برأيهم, قد يغير الاردن من تكتيكاته تجاه إسرائيل. لكنه غير قادر على أكثر من ذلك لضرورات ضمان التحالف الاستراتيجي-الامني-السياسي-الاقتصادي مع واشنطن, والذي ترسخ خلال السنوات العشر الماضية.
إسرائيل تبقى حليف أمريكا الأول في المنطقة. اللوبيات المرتبطة بها في واشنطن تحدّد أولويات سياسات الدولة العظمى تجاه المنطقة. وستظل الكلمة الأخيرة في الإفراج عن مساعدات إقتصادية غربية وعربية للأردن رهنا برضا أمريكا ومن لف لفيفها عن سياسات المملكة وتوجهاتها.
"يد أمريكا في حلقنا", كما يقول مسؤول حكومي كبير في إشارته إلى تراجع غالبية المساعدات الخليجية. ومن لا يملك مقومات إقتصاد قوي, ولا يقدر على فطم نهج سياسات "دولة العطايا" واستبدالها بمفاهيم دولة المواطنة والحاكمية الرشيدة, لا يستطيع تنويع خياراته الدبلوماسية او التمرد على ولي النعمة.
في الذاكرة سيطرة إسرائيل على رسم استراتيجية إدارة الرئيس الامريكي السابق جورج بوش ونفر المحافظين الجدد, في المنطقة. فهي نجحت في تقنين سياسة الأردن تجاه ملفات فلسطين, العراق, لبنان, سورية وإيران. مصر والسعودية. أعضاء الرباعية العربية التي سعى الأردن لتشكيلها في تلك الحقبة لتقوية موقفه, غلّبت مصالحها الاستراتيجية على مصلحة التحالف, وكشفت ظهر الأردن.
الثنائية الأمريكية- الإسرائيلية حصرت دور الأردن في:
- دعم رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية الفتحاوي محمود عباس, ومنع الاتصال بحماس رغم أنها أن فازت بالاغلبية في الانتخابات التشريعية وقادت حكومة عام 2006 قبل الانفصال.
- دعم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وتجيير نفوذ الاردن لدى سنّة العراق لمصلحة تقوية المالكي.
- دعم رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة ومنع أي اتصالات بوزراء عاملين يمثلون حزب الله في حكومته.
- حصر الحديث مع الرئيس السوري بشار الاسد بالجانب المتعلق بوقف دعم حماس وحزب الله وإيران, وتعزيز جهود مكافحة خطر القاعدة في العراق.
في موازاة ذلك أحبطت جهود أردنية علنية وغير علنية لفتح قنوات اتصال دبلوماسية وأمنية مع إيران. ولم يشجع الاردن في مسعاه لتحسين علاقاته مع قطر.
وحين حاول الأردن الانفتاح على حماس عبر القناة الأمنية لتنويع خياراته الدبلوماسية في مواجهة سيناريو خيار الوطن البديل, حصل ما حصل من ضغوط اقتصادية أمريكية وإسرائيلية.
تبع ذلك طعن في خاصرة الأردن من دول الاعتدال العربي. السعودية فاجأت الأردن ب¯"صلحة مكة" التي لم تعمّر طويلا بين حماس وفتح. ومارست ضعوطا حتى يخفّض الأردن مستوى تمثيله في القمة العربية التي عقدت في دمشق العام الماضي. ورفض العاهل السعودي مرارا محاولات الملك عبد الله الثاني تسليك الطريق بين دمشق والرياض.
في تناغم ملفت, حثت مصر والسعودية الأردن على دعم سلطة عباس والجهود الأمريكية لتأسيس قوات أمنية في الضفة الغربية من أجل كسر شوكة حماس, بينما استحوذت مصر على جهود الوساطة بين الفصيلين المتناحرين. وفي أواخر أيام رئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود اولمرت, طلب الأخير من الأردن الضغط على عباس لإقناعه بقبول خطته بما فيها خرائط تبادل الأراضي بين الضفة الغربية وإسرائيل ضمن صفقة مجحفة, مع انها كانت الأكثر كرما في نظر الإسرائيليين. بدا ذلك الاقتراح هنا كحصان طروادة يستهدف استقرار الأردن, إذ يطلب منه لعب دور في الضفة الغربية وصولا إلى كونفدرالية مع "شعب بلا أرض" وحشر ما تبقى من كانتونات الضفة الغربية على شكل شطيرة بين المملكة وإسرائيل.
في السنوات الأخيرة, تعمق الانطباع الشعبي وفي اوساط الطبقة السياسية من أن دائرة مناورة الأردن باتت مقيدة بحدود مصالح أمريكا ومن ورائها إسرائيل في تقسيم المنطقة الى مناطق نفوذ مع أيران بعد نسف نظام صدام حسين.
اليوم يصحو الأردن وينام على وقع معاهدة تحولت إلى خنجر يطعن أمن الأردن واستقراره.
لسوء الطالع نسف الرئيس الامريكي باراك اوباما مفهوم الأردن لحل الدولتين, ذلك أنه لم يقوى بعد على مواجهة الخطوط الحمر التي رسمها نتنياهو لخلق كيان هزيل في الضفة الغربية وقطاع غزة يضغط باتجاه الانفتاح على المملكة ومصر. كيان بدون سلاح, وبدون حق عودة وتجميد الاستيطان, وبقدس موحدة عاصمة أبدية لدولة إسرائيل.
وكما يقول المثل الشعبي, كسر اوباما عصاته من اول غزواته. إذ تعامل بصورة مشينة مع الرئيس عباس اثناء القمة الصورية التي جمعته في نيويورك مع نتنياهو المنتصر. وبذلك ضرب ما تبقى من مصداقية لدى عباس فلسطينيا وعربيا. واليوم يعمل نتنياهو على ارساء سلام اقتصادي وتعزيز الحكم الذاتي. ويعلن رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض خطة لإقامة دولة فلسطينية عام 2011 بطريقة تحاكي مفاهيم نتنياهو. الدول الاوروبية وامريكا تعارض جهود تحقيق مصالحة بين حماس وفتح إذا لم تذعن حماس لشروط لجنة الرباعية الدولية وتعترف بحق إسرائيل في الوجود وبنبذ "الارهاب".
بالأمس, فاجأ الرئيس عباس الجميع بالإعلان عن موعد انتخابات رئاسية وتشريعية مطلع العام المقبل. ويخشى ساسة ومسؤولون عرب من أن يوظف الرئيس الفلسطيني الانتخابات لإخراج حماس من الحلبة السياسية, حتى يستفرد بالوطن وفي النهاية قد يقبل بمعاهدة تتماشى مع الشروط الاسرائيلية الامنية والسياسية والاقتصادية.
الحصيلة اليوم; شريك فلسطيني معزول وإسرائيلي يزداد قوة, وشريك أمريكي عاجز عن دفع الفلسطينيين والاسرائيليين إلى طاولة المفاوضات.
مصر معنية بمصالحة تبعد عنها شرور أسلمة غزة وتهديد المد الاسلامي, ريثما يجد الرئيس المصري طريقة لإقناع المؤسسة العسكرية بقبول توريث الحكم لنجله جمال. سورية ظهرت الأقوى هذه الأيام. أصابعها تلمع بأحجار ثمينة; "ايران, حماس, حزب الله, ورضا السعودية وتركيا", كما تلعب مع أمريكا وأوروبا لصياغة أسس علاقات جديدة قائمة على المنفعة المتبادلة واحترام الاخر.
في المحصلة ضاعت بوصلة عملية السلام. وسيدفع الفلسطينيون الثمن الأكبر للنتائج الكارثية المتمثلة بضياع حقوقهم التاريخية, تليه انعكاسات ذلك على مستقبل الأردن وهويته السياسية, والاستقرار في مصر.
الملك لم يتوقف عن دق ناقوس الخطر عبر إصراره على أن الوضع القائم لم يعد مقبولا, وفرص السلام تضيق يوما بعد يوم. فهو اكثر زعيم عربي عمل بمثابرة وحشد طاقة الأردن الدبلوماسية والسياسية خلال السنوات الثلاث الماضية لتحقيق فرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
على أن أيا من مسؤولينا "المتشائمين" غير قادر على نعي أو طي ملف السلام الذي أغلق مرة أخرى لمصلحة إدارة الصراع بأقل الاضرار.
المطلوب من مطبخ القرار الاستراتيجي اليوم الإجابة بصراحة اذا ما كان انزلاق السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة عباس وفياض صوب فخ الشروط الاسرائيلية في زمن العجز الأمريكي والعربي سيفيد الاردن ام لا?
آن الأوان لأن تلتفت السلطات للوضع الداخلي, عبر مأسسة إصلاحات سياسية تدريجية تستهدف توسيع قاعدة المشاركة الشعبية بدون استثناء في دولة المواطنة والقانون والحاكمية الرشيدة, فضلا عن الانفتاح أكثر على المكون الأردني من اصول فلسطينية للتفكير في مستقبل المملكة بعد طي خيار حل الدولتين المقبول فلسطينيا وأردنيا. وربما نشرع في قلب طاولة التحالفات السياسية وتنويع خياراتنا الدبلوماسية لخدمة الاهداف العليا للدولة.
فالنظام الاقليمي الجديد قيد التشكّل بات واضح المعالم بعد 15 عاما من حصر الرهان محليا على وثيقة معاهدة باتت حبرا على ورق. فأمريكا تغض الطرف عن تمدد أيران في العراق واستباحة إسرائيل للقدس وسائر الاراضي المحتلة, بينما يتحول الاردن الى دولة عازلة بين جبهتين; مفتوحة على ضفة غربية تربض على قنبلة ديمغرافية وعراق متفجر.0
نافذة
اليوم يصحو الاردن وينام على وقع معاهدة (وادي عربة) تحولت الى خنجر يطعن امنه واستقراره.
rana.sabbagh@alarabalyawm.net