في نهايات عمر مجلس النواب السابع عشر، الذي شرفتني محافظة الكرك بثقتها نائبا فيه. بعثت بمذكرة خطية بتاريخ 4/4/2016 لسعادة رئيس مجلس النواب، قلت فيها: بما أن مجلس النواب يشكل دستوريا سلطة تشريعية ورقابية، وحتى يقدم المجلس من نفسه قدوة للسلطات الأخرى، وحتى يكون انموذجا لسلطات الدولة ومؤسساتها في النزاهة والشفافية والعلنية، وهذا المتوقع من المجلس الكريم،أرجو أن يعمد مجلس النواب الى الافصاح للرأي العام عن مايلي:
1- أسماء المشمولين بالتعيينات والانتدابات والتنقلات والاعارات المرتبطة بالجهاز الاداري لمجلس النواب، منذ بداية عمل المجلس السابع عشر. (وكان وقتها قد ثار جدل كبير حول تعيينات مجلس النواب في عام 2016 لحوالي 110موظفين في ملاك المجلس استثناء وخارج ديوان الخدمة المدنية وأغلبهم من أقارب النواب).
2- سفريات السادة والسيدات النواب، مع تحديد عدد ليالي السفر لكل نائب، وغايات السفر، وكلفته من موازنة المجلس، والانجازات المتحققة من السفر. منذ بداية عمل مجلس النواب السابع عشر.
3- اعلان مجموع غيابات كل نائب عن جلسات المجلس و عن اجتماعات اللجان، التي يحمل عضويتها، منذ بداية عمل المجلس السابع عشر.
وبطبيعة الحال لم يؤبه لهذا الطلب، وذهب الى أدراج أرشيف المجلس، وكأن التقاليد البرلمانية لا تسمح بمثل هذه الخطوة الجريئة من العلنية والمكاشفة العامة مع الأمة. وقد يكون هذا جريا على قناعة مزمنة بأن استقلالية السلطة التشريعية، تمنحها حصانة فوق الرقابة الشعبية! ولعل في تقرير ديوان المحاسبة، الذي يتقدم به الى مجلس الأمة سنويا، خير مثال على نزع اي رقابة عن أداء مجلس النواب! فالتقرير يفصل ويجمل مايراه من مخالفات في مؤسسات الدولة بما فيها مجلس الأعيان، بينما يغض الطرف عن أداء مجلس النواب، ولا يتطرق من قريب أو بعيد له! ولعله يغيب عن ذهنية المجلس، وهو يتسلم تقارير ديوان المحاسبة أنه ينبغي ان يقدم من نفسه انموذجا لبقية السلطات و المؤسسات. كما يغيب عن الذهنية النيابية مرامي واستحقاقات المادة الدستورية(1/24)؛ "الأمة مصدر السلطات"، وأنها أي الأمة من منحت النواب توكيلا محدود المدة، ليعودوا اليها طالبين ثقة وتوكيلا جديدين، كل أربع سنوات شمسية! ومن حقها أن تراقب أداء نوابها. واهمال المجلس لتقاليد العلنية والشفافية واحترام رقابة الأمة، يؤكد عدم التقاط المجلس للتوجيهات الملكية المتتالية، بأن يقدم الجميع من أنفسهم انموذجا وقدوة في الالتزام بسيادة القانون ومباديء منظومة النزاهة الوطنية، ولو أن مجلس النواب فعل ذلك، وهو الأحوج الى اكتساب ثقة الأمة، لكان أسهم في تعزيز صورة ايجابية للحياة البرلمانية، ولاقترب من روح الاصلاحات السياسية و الدستورية، التي جاءت بزخم التوجيه الملكي، وهدفت الى تمكين مجلس النواب من ممارسة دوره المحوري في الحياة الدستورية والسياسية بشكل أكثر فعالية وانتاجية، عبر مؤشرات أداء واضحة.
وها أنذا أعود من موقعي مواطنا، الى توجيه هذه المطالبة للمجلس النيابي الحالي ( الثامن عشر)، بأن يعمد الى تقديم تقرير ختامي شامل ومفصل عن أعماله في نهاية عمره الدستوري، متضمنا الانجازات التشريعية والرقابية، ونشاطاته في اطار الدبلوماسية البرلمانية، والاداء الاداري و المالي للمجلس، وأوجه الانفاق، والسفر والتنقلات والتعيينات والاعارات وغيرها، وتسليط الضوء على مساهمات كل نائب في العمل البرلماني، فمن حق الناخب أن يعرف ماذا فعل النائب خلال أربع سنوات، وماذا أنجز؟ وما طبيعة مواقفه ونشاطاته.
والذي لم يدخل "مخي الكركي" أن النواب يناقشون بحرارة موازنة كل مؤسسات الدولة بما فيها موازنة الديوان الملكي والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، لكنهم لا يعرفون شيئا عن موازنة مجلسهم!! وما لم يدخل "المخ الكركي" ذاته أيضا أن ينبري السادة النواب في جلسات الرقابة والتشريع، وعبر الأدوات البرلمانية المتنوعة الى قصف الحكومة والوزراء والمؤسسات جميعها بالتساؤلات والأسئلة والاستجوابات والتهديد بالحجب، في حين لا يؤمنون بأهمية ممارسة الرقابة على مجلسهم من أي جهة كانت، حتى لو كانت من قبيل الرقابة الذاتية ومن خلال اللجان المختصة داخل المجلس ذاته!!
ولدي قناعة بأنه اذا ما أخضع مجلس النواب نفسه للرقابة الذاتية وفقا لمواد واضحة في نظامه الداخلي، ولرقابة ديوان المحاسبة، ولرقابة شعبية عامة عبر تقديم تقرير سنوي وآخر ختامي عن أعماله للأمة، فانه بذلك سيقدم خدمة جليلة لتعزيز الثقة بمجلس النواب، و لتفعيل منظومة النزاهة والشفافية وسيادة القانون. كما سيقدم اضافة هامة للاعراف والتقاليد البرلمانية، في لحظة أحوج ما نكون فيها الى استعادة ثقة المواطنين بدور مجلس النواب، وتبديد الشكوك والاشاعات، وتعزيز روح الثقة والمشاركة في الانتخابات القادمة، التي نتوق جميعا الى أن تكون مدخلا لزمن ديمقراطي جديد، وفقا للرؤية الملكية المتبلورة بوضوح في الأوراق النقاشية الملكية، وكتب التكليف الملكي وخطابات العرش السامية.
أجزم بأن عددا كبيرا من السيدات والسادة النواب في المجلس الحالي، كما في مجالس سابقة، تواقون لتحسين صورة مجلس النواب في الذهنية العامة، وليس لديهم ما يمنع اطلاقا من جعل مجلس النواب تحت أنظار الشعب ورقابته المنهجية، ونؤمن بأن كثيرا من النواب الجيدين يظلمون في ظل صورة نمطية سلبية عامة للنواب وللمجلس، للأسف الشديد، وكلي ايمان بأن ثمة نواب في هذا المجلس ومن سبقه من المجالس ترفع لهم القبعات، وثمة انجازات هامة للمجلس وللنواب لا يلتفت لها الناس، وثمة جلسات ومناقشات غاية في المهنية والعمق تجري في اجتماعات اللجان الطويلة وفي الجلسات العامة، تضيع بتسليط الضوء على قفشة، أو كلمة، أو مشاجرة، هنا أو هناك!
* أكاديمي و نائب سابق.