للبقاء .. كما للغربة أيضا ثمن!
لارا مصطفى صالح
05-08-2019 10:48 PM
بعد دقائق يكون الليل قد تجاوز منتصفه. اخترق صدري كابوس لئيم وتحول بعدما أفقت إلى وحش لم ينفك ينهش عقلي. استنجدت بما تمتلك ذاكرتي من تعاويذ وأغان وصور جميلة لأدفعه إلى الرحيل عن ليلتي، فلم أفلح! سيطرت على عجزي عن النهوض من سريري، وأحكمت قدماي على أرض الغرفة وحررتهما من قيد العجز، وسرت باتجاه المطبخ. لا أدري لماذا تقودني قدماي إلى المطبخ بعد كل كابوس!
سمعت صوت صراخ كأنه آت من المجهول. نظرت من حولي في حيرة، فلم أجد شيئا. الصراخ لا يزال مستمرا، لكن بوتيرة أعلى عما كان في بدايته. خرجت إلى شرفة المطبخ. لم أظن أني سألقى إنسيا في وسط هذا الليل، بيد أن ظني كعادته، خاب. كان الصوت قادما من غرفة حارس العمارة، وبدا لي أنه لم يكن وحيدا.
اتجهت صوب الباب لأجد والدي وأخي قد سبقاني إلى مصدر الصوت.
رجل في منتصف الأربعين، أحكم يديه على رقبة غريمه (الحارس) يود الانتقام منه وتأديبه بحجة أن الأخير (مغلب أم الاول)!
- "الحارس مغلب أمي" هذا ما قاله ذلك الجبان للضابط فيما بعد.
رغم إفراطه في الشرب -وهذا ما بدا من صوته وطريقة كلامه وحركات يديه العشوائية- إلا أن قوة غريبة انبعثت في جسده الضئيل عندما أمسكاه أخي ووالدي. أفلت من بين أيديهم محاولا ضرب الحارس من جديد فأمسكا به مرة أخرى. رمى به أخي أرضا وصاح في وجهه صيحة اهتزت لها قدماه. خاف الجبان وزحف على ركبتيه وقدميه ودخل إلى المصعد متجها إلى منزل (أمه) على ما أعتقد. كان يحدق في الجميع بلا وجل، ولا يزال يتوعد.
امتلأ المكان بالصمت حتى بدده صوت الحارس: "فزعتكم دين في عنقي". قال.
مسح والدي وجهه بكلتا يديه، تمتم بيأس واضح، لا حول ولا قوة إلا بالله. والتفت إلي: شو رأيك باللي صار؟
- كم عدد الشقق في العمارة؟ سألته.
- ١٦ شقة. رد.
- ١٥ شقة من أصل ١٦، لم يجرؤ منهم أحد على التدخل!
- انتشار السلاح بين العامة أحدث قلقا عند الغالبية.. "بيخافوا يتدخلوا ليطلعلهم حد بسلاح"!
- وهل يخون المرء أخلاقة بحجة الخوف؟!
- أربكه سؤالي، لكني أنقذته بدعابة لم تفلح إلا في تغيير الموضوع.
- اعمليلنا قهوة يا ابوي!
قديما؛ وفي مواجهات كهذه كان المكان يشبع من وقع الأقدام ويفيض بأصوات الرجال لردع الظالم ونصرة المظلوم. لكن يبدو، أن الكثيرين قد تكيفوا فعلا مع الخوف. بالمناسبة، لست متطيرة إلى الحد الذي قد يفقدني الأمل تماما. فلا زلت بانتظار من سيجزم لي أن "الدنيا لسة بخير".. الخير الذي بدونه يضمحل ويتلاشى بل ويزول أي معنى للإنسان. ولا زلت بانتظار ذلك اليوم الذي سيتسنى لنا أن نجول في الشوارع عراة من خوفنا، نضحك ونغني ونكابر في وجه واقع قبيح. لكني وبصدق مطلق، لا أستطيع إخفاء عجزي عن التفاؤل حاليا. أرجو أن لا تكون إلا حالة عابرة قد أدفع ثمنا للتخلص منها مزيدا من فناجين القهوة أو بعضا من الحبوب المهدئة على أسوء تقدير. فعلى ما يبدو أن لكل شيء ثمن؛ للتفاؤل ثمن وللتشاؤم ثمن. وللبقاء كما للغربة أيضا، ثمن.
إحدى ليالي عمان/ صيف ٢٠١٩.